الاثنين، ٨ أكتوبر ٢٠٠٧

محمود البدوى بعد سنوات من الصمت ـ أجرى الحوار يوسف القعيد

محمود البدوى
بعد سنوات من الصمت

لا أكتب من أجل الخلود .. ولكن لأطرد الملل ..
أطالب الدولة بتدعيم الكتاب قبل الرغيف
..

أجرى الحوارالروائى : يوسف القعيد
عنـــوان الدوريـــة : مجلة المصور
تاريخ النشــــــر : 25/9/1981

يتوقف القلم طويلا .. قبل البدء فى حوار مع محمود البدوى.. والحيرة تصل إلى طريق مسدود .. فبأى الكلمات أبدأ ..؟
هل أقول أن هذا الكاتب الجالس أمامى .. عبارة عن 73 عاما يحملها فوق كتفيه و 500 قصة قصيرة ، صدرت فى 20 مجموعة قصصية ، ورواية واحدة .. وكتاب واحد من أدب الرحلات ، ومع هذا نسيه الكل ..
أم هل أبدأ بالقول ، أنه ربما كانت المرة الأولى التى يجرى معه فيها حديث طويل عنه وعن حياته ..
رفض فى البداية أن يجرى اللقاء فى بيته ، لا علاقة بين البيت والحياة العامة .. هكذا قال لى ، وتواعدنا على اللقاء فى مقهى بشارع عماد الدين ..
عناء الحياة
عندما دخل المقهى ، كان معه عم عبد العزيز ، صديق وحيد استمر معه رحلة العمر كلها ، بائع كتب ، يمر عليه فى المقهى ، معه كتب قديمة تفوح منها رائحة الزمن البعيد .. عزم عليه بالقهوة ، وجلس الرجل بالقرب منا ، الرجل فى الثالثة والسبعين من العمر ومع هذا جرت وقائع يومه كالتالى :
فى الصباح الباكر استيقظ حيث يعيش فى ضاحية مصر الجديدة ، نزل من بيته وسار حتى موقف التاكسى ، ليست لديه سيارة خاصة .. قال لى :
لو كنت أركب سيارة خاصة لانقطعت صلتى بالناس والحياة ، وأنا زاد عمرى الوحيد هو الناس ..
يظل فى المقهى حتى قرب الظهر ، ثم يبدأ رحلة كل يوم ، من وسط المدينة حتى مصر الجديدة ..
دخل محمود البدوى المقهى وهو فى حالة عناء ، مشهد رآه وهو فى الطريق سيطر عليه ، وكان يعيشه .. مشروع قصة جديدة لا يدرى متى تخرج إلى النور .. حكى لى المشهد بلذة خاصة :
وقف يلمع حذاءه عند شخص مبتور الساق ، وخلال عملية عملية التلميع ، حكى له الرجل قصته .. انهار بيته وأصبح بدون بيت ، وهكذا عاش فوق هذا الرصيف الذى أصبح مكان عمل ونوم وحياة ، ولكن محاميا رق قلبه لحاله ، فقرر أن يرفع له قضية يطالب فيها بشقة له ..
يقول البدوى :
ان اللفتة الانسانية من المحامى هى ماتوقفت أمامه طويلا .. الدنيا مازالت بخير ، والجانب الانسانى فى حياة البشر لم ينسف بعد ..
قال البدوى بحماسة الشباب :
ـ لا أعرف كيف يخرج هذا العمل إلى الوجود ، وأنا عادة أعيش مع القصة القصيرة شهرا بأكمله .. ورحلتها بداخلى قد تطوبل فى بعض الأحيان ..
القراءة والكتابة
* فاجأته بسؤال عما يفعله هذه الأيام ..؟
قال :
ـ أقرأ وأكتب ، وبالتحديد أعيد قراءة بعض الأعمال الأدبية التى أعود إليها بين الحين والآخر .. أقرأ أميل زولا .. وأدجار ألان بو .. و تشيكوف .. و بوشكين .. و جوركى .. و دستويفسكى ..
يبدو السؤال القديم ، لم تكتب ..؟ أو كأنه سؤال معاد ومكرر .. وان كانت الاجابة عليه تكتسب طعما خاصا من كاتب لآخر ..
بهدوء وببطء قال الرجل :
ـ لن تصدقنى ، أنا لاأفكر فى الخلود أبدا .. أو تخطى حدود الزمان الذى عشنا فيه .. الخلود اسطورة لا أعرفها .. ولا أتصور كاتبا ينقب فى حياتى بعد موتى ، وحتى إن حاول أحد ذلك ، لن يجد فى بيتى ولا فى أهل بيتى ما يعينه على فهم أى شىء ..
أنا أكتب لأطارد من خلال الكلمة شبخ الموت .. والخوف .. والرعب .. أحاول الوقوف مع مكسورى الجناح من البشر .. ورفع الظلم عنهم .. بالنسبة لى أحيانا أكتشف أننى أكتب لأطارد شبح الملل عنى .. كلها أشباح أطاردها من خلال ما أكتبه ..
سألته :
* لماذا تبدو بعيدا عن الحياة الأدبية ..؟
كان الرد جاهزا على طرف لسانه هذه المرة :
ـ ليس هذا ذنبى ، ولكنه ذنب الأدباء الشبان ، فالتواصل معهم ـ حتى من خلال ما يكتبونه ـ يبدو صعبا ، أدبهم صعب وعسير على الفهم ، ويبدو أن ذلك يحدث كنوع من التأثر بأوربا ، ولكن لم نتأثر بأوربا ، مع أن ظروفنا شديدة الاختلاف ..
الكلمة المكتوبة
الرجل الجالس أمامى ، قضى نصف قرن بالتمام والكمال فى محراب الكلمة المكتوبة ، وأعتقد أن قضاياها تهمه بصورة خاصة ..
سألته عن حال الكتاب والكلمة المكتوبة ..
قال لى :
ـ الكلمة المكتوبة محاصرة ، وراءها الأمية وأمامها عصر الاعلام ، وان كان الاعلام فى حد ذاته لايشكل أى خطر على الكلمة المكتوبة ، ففى أمريكا 13 قناة تليفزيونية ، ومثل هذا العدد من قنوات التليفزيون موجود فى أوربا وفى اليابان ، ومع هذا لم يفقد الكتاب مبرر وجوده أبدا .. الفارق أساسى بين الكلمة المكتوبة والتعامل معها ، وبين السينما والتليفزيون والمسرح .. مشاهدة السينما تقترب من عالم القطيع ، انها حالة جماعية ، يفقد الانسان فيها فرديته واحساسه بهذه الفردية . أما القراءة فهى العملية الفردية الوحيدة التى يمارسها الانسان .. انها توفر للانسان الذاتية التى يحن إليها كل منا ..
ولا يمكن أن يكون لها بديل و" الأخوة كرامازوف " عولجت فى السينما أكثر من مرة ، وقدمت على المسرح ، وظهرت فى التليفزيون ، ومع هذا لايزال للنص الأدبى سحره الخاص الذى لابديل له أبدا ..
المشكلة عندنا أن الكتاب أصبح غالى الثمن ، وأصبح اخراجه رديئا ، وحتى عندما يخرج إلى الحياة الأدبية ، فهو يبقى عاريا ، إذ لايغطيه جو أدبى وثقافى مثل الجو الذى كان سائدا فى الثلاثينات والأربعينات بخصوص الكلمة المكتوبة ..
لست متفائلا أبدا ، بل ربما كنت متشائما ، وأخشى أن يكون الأوان قد فات .. من يذهب إلى دار الكتب الآن يحمل كتابا من الأجيال الجديدة ..؟
أننى أشاهد أبناء هذه الأجيال يقفون طوابير طويلة أمام دور السينما .. ومع هذا لما أشاهد شابا يحمل كتابا ، هذا لم يحدث من قبل أبدا ..
فى شبابنا كنا نقتطع من مصروفنا اليومى ، وهو قليل ، لكى نشترى الكتاب .. أما الأجيال الجديدة ، فالكتاب قد يكون فى البيت ، ولكن الأيادى لا تمتد له . كان لدينا عشق للأدب لدرجة الجنون ، وكان هذا الجو سائدا .. عبد الرحمن البرقوقى صاحب مجلة البيان ، فى هذه المجلة ، كان يكتب المازنى والعقاد وعبد الرحمن شكرى ، كل هؤلاء خرجوا من مجلة واحدة ، وهى مجلة صاحبها فرد ، وليس دولة ، ولا وزارة أو خلافه .. والرسالة أيضا مجلة صاحبها فرد ، وقد تحولت إلى مدرسة أدبية .. أحمد أمين كان يصدر مجلة الثقافة مع اثنين من زملائه .. لجنة التأليف والترجمة أيضا ، كان يملكها ويديرها أفراد .. الدولة الآن وبكافة أجهزتها الثقافية تعجز عن ملء هذا الفراغ ، لأن الجهاز الضخم لايوجد فيه هذا القدر من الحب للكلمة والأدب ..
البدوى والسياسة
هذا الرجل عاصر مصر من نصف قرن ، وقد نأى بنفسه بعيدا عن السياسة تماما ، فلم ..؟
ـ لا أحب السياسة ، أنا شخص حساس ومرهف الحس ، وان دخلت فى دوامة السياسة سيتعطل عملى وانتاجى ، ولا مفر أمام الفنان من الابتعاد عن العمل السياسى بكل صورة من صوره ..
* لماذا ظلمك النقاد ..؟
ـ لسبب بسيط هو أننى لاأهدى كتبى إلى أحد ، والكل يعيش حالة من الكسل الجسمانى والعقلى وينتظر أن تصل الأعمال إليهم ..
هنا كان لابد من سؤال صريح :
* هل ظلم نجيب محفوظ جيلكم ..؟
قال الرجل بقدر من المرارة :
ـ ربما حدث هذا ولكنى أعتبر ذلك موقفا عابرا ، وسرعان ما يتم اصلاح هذا الموقف مع مرور الوقت ، لاشىء يستمر أبدا ، وكل الأمور يعاد النظر فيها مع مرور الوقت ..
الكتابة فى المقاهى
محمود البدوى كاتب من نوع فريد ، يكتب دائما فى المقهى ، سألته عن هذا ، فكانت اجابته أكثر غرابة ..
ـ لا أحب الأماكن المغلقة .. أحب الأماكن المفتوحة ، وأحب أن تكون الحياة متحركة أمامى دائما ، الكتابة الأولى لأى عمل أدبى لابد وأن تتم وحولى الناس بكل الصخب والضجيج الذى يحدثونه .. أما الكتابة الثانية أو الثالثة فهى تتم فى البيت عادة ، وإن كان من المؤسف أن المقاهى تختفى من حياتنا ، كل الأشياء الجميلة تختفى ، كافة المقاهى المتسعة تتحول إلى محلات من أنواع جديدة .. الآن أمشى كثيرا فى الشوارع ، وخلال المشى ، فإننى اؤلف أعمالى الأدبية ، وأنا أتجول هنا وهناك ..
***
ومحمود البدوى فى الثالثة والسبعين من عمره ، مولود فى قرية الاكراد مركز أبنوب ، محافظة أسيوط . منذ ثلاثة أعوام لم يسافر إلى الصعيد ، حيث اعتاد السفر بصورة منتظمة . ومنذ سنة 1973 وحتى الآن لم يسافر خارج مصر ، مع أنه كان كثير السفر والترحال ، وله كتاب وحيد فى أدب الرحلات ، عن طوكيو مدينة الأحلام ، وكثير من قصصه تدور أحداثها خارج مصر ، فى البلدان التى زارها . والرجل رغم هذه السن المتقدمة ، يقوم برحلته من مصر الجديدة وحتى منطقة وسط القاهرة ، ثلاث مرات فى الأسبوع ، من أجل أن يحدق فى الآخرين ، ومن أجل أن يرى الناس ، وأن يقترب منهم ، وأن يلتقط من نثر الحياة اليومية قصصه التى يقدمها لهم فى شكل فنى بديع ..

ليست هناك تعليقات: