الاثنين، ٨ أكتوبر ٢٠٠٧

محمود البدوى يتحدث ـ أجرى الحوار إبراهيم سعفان

محمود البدوى يتحدث

حرفة الأدب معاناة أولاً

* على الجيل الجديد أن يأخذ نفسه بالجدية والصبر
* قرأت ـ دون مبالغة ـ جميع كتب التراث التى صدرت
* النقد .. منذ عشرين عاما لا يؤدى دوره المطلوب


عنـــوان الدوريـــة : صحيفة الوطن ( الملحق )
أجرى الحوار الناقد : إبراهيم سعفان
تاريخ النشــــــر : 3/8/1981


الكاتب الحقيقى هو الذى يكتب كلمته لتصل إلى القارىء ، غير آبه بما يعترض طريقه من شوائب ، لأن التقدير والخلود الحقيقيين للكلمة الجيدة وتقدير القراء ليس لأنصاف الموهوبين الذين تطنطن لهم أجهزة الاعلام والصحافة ، وفى النهاية نخرج بطنطنة بلا طحن ..
والأستاذ محمود البدوى من الذين يدركون هذه الأمور جيدا ، ولذلك قبع فى محرابه يكتب ، عازفا عن الأضواء ، محجما عن الأدلاء بأى حديث أدبى ..
ولكن .. رغم معرفتى بطبع البدوى هذا .. عقدت عزمى على اجراء حوار معه .. فأخذت أحوم حول الفكرة بدءا فى لقاءاتى معه المتكررة .. ويتأخر التنفيذ .. وأخيرا قررت أن أفصح عن رغبتى فى اجراء حديث معه ليفتح قلبه وعقله لقرائه الذين يحبونه .. وكانت دهشتى وكانت فرحتى .. عندما خصنى بهذا الحديث ..
ومحمود البدوى أثرى المكتبة العربية باثنين وعشرين عملا قصصيا هى :
الرحيل 1935 ـ رجل ـ فندق الدانوب ـ الذئاب الجائعة ـ العربة الأخيرة ـ حدث ذات ليلة ـ العذراء والليل ـ عذراء ووحش ـ الزلة الأولى ـ الأعرج فى الميناء ـ غرفة على السطح ـ صقر الليل ـ السفينة الذهبية ـ مدينة الأحلام ( كتاب فى أدب الرحلات ) ـ الباب الآخر ـ صورة فى الجدار ـ الظرف المغلق صدر عام 1980 ..
والبدوى استطاع بقدرته الفنية أن يكون نغمة متميزة عن أبناء جيله .. فقد انتقل بالقصة القصيرة من فجاجة الرومانسية والواقعية الهاتفة إلى الواقعية المعبرة بصدق عن الواقع المعاش .. ولم يكتف بتصوير الحدث فقط ولكنه يضمنه رأيه ونظرته النقدية فنحى منحى الواقعية النقدية .. كما أنه أنقذ الواقعية من مهاوى الأسلوب الأدبى السلس .. والتصوير الدقيق .. واهتم البدوى أيضا بتصوير العلاقة بين الرجل والمرأة ونوعية العلاقة العاطفية بينهما ..
* اتسم عصرنا بالسرعة ، فما أثر ذلك على القصة القصيرة والشعر ، وأثره على الإنسان ..؟
ـ بالنسبة للعصر فهو يتسم بالسرعة ، والطبيعة الآن تقتضى السفر من بلد إلى بلد حتى أننى سمعت عالما مصريا يقول أن جميع قراءاته فى الطائرات ، لأنه ليس عنده وقت اطلاقا لقراءة أى شىء فى البيت أو المكتب . فبداهة يقتضى أن يكون الكتاب صغير الحجم ، لأن حجم الكتاب الكبير كما كان موجودا من قبل لايطابق مقتضى الحال .. فكلما عرضت فكرة بأسلوب مختصر كان ذلك أوقع عند القارىء من أن يقرأ هذه الفكرة فى كتاب 500 أو 600 صفحة .. وبالمثل الشعر .. فيمكن للإنسان أن يطالع القصيدة كما يطالع القصة القصيرة فى زمن أقصاه نصف ساعة .. أما الرواية فتقتضى أياما بلياليها ، ولكن لا يمنع اطلاقا هذا من وجود الرواية .. وهناك فرق بين الرواية والقصة القصيرة ، فالرواية تعرض الموضوعات باسهاب وشرح ، أما القصة القصيرة فتعتمد على التركيز المطلق والتكثيف وتتتطلب من القارىء الذكاء ، أما الرواية فلا تتطلب ذلك ، فالإنسان يستطيع أن يقرأها حسب مدارك فكره لأنها مشروحة ومبسطة ..
* نشوب العلاقة بين الشبان والرواد جفاء ، ونلقى بعض الادعاءات من الشبان ضد الرواد ، فما رأيك فى ذلك ..؟
ـ المعاناة فى النشر مرت على كل أديب .. فعندما كنا فى سن الشباب ، مرت علينا فترة معاناة فى النشر أكثر مما يعانيه جيل الشبان اليوم .. ولكن كنا نتغلب على هذه الصعوبات بطبع الكتاب على نفقتنا الخاصة بسهولة لأن التكاليف كانت رخيصة وفى مقدور كل انسان أن يقدم على طبع الكتاب على نفقته الخاصة ، أما الآن أصبح مستحيلا وصعبا على الجيل الموجود حاليا أن يطبع الكتاب على نفقته الخاصة ..
وأود أن ألفت النظر إلى أن الجيل القديم أيام أحمد أمين والزيات لم يكونوا يعتمدون اعتمادا مطلقا على الدولة ، فالزيات أخرج الرسالة وحده ولجنة التأليف والترجمة والنشر أخرجت كتبا عديدة تعتبر قمة الكتب الأدبية ، كما أصدرت مجلة الثقافة دون اعتماد على قرش واحد من الدولة .. وتعتبر هذه المجلات من العصر الزاهر للأدب فى مصر ، فقد كانت توزع الألاف المؤلفة لدرجة أن مجلة الرسالة كان لها 7000 مشترك فى العراق ..
هذا الجيل لم يكن يتصور أن الطريق سهل ومعبد ، ولكن عشقهم للأدب الذى يجرى فى دمائهم كان يدفعهم إلى التفانى فى العمل والاخلاص له ، فأحمد أمين والزيات مثلا كان يجلس كل منهما يوميا من الساعة التاسعة صباحا إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. كان هذا نتيجة حبهم الشديد للأدب وتفانيهم فى خدمته .. هذه صورة من الجيل القديم ..
أما الجيل الحديث يتصور أن الدولة يجب أن تعبد له الطريق وتجعله مشهورا فى مدى ثلاثة شهور حتى يسير فى الشارع فيشار إليه البنان .. وهذا أمر عجيب .. حرفة الأدب لمن يحترفها معاناة أولا ومشاركة للناس فى همومها ومعاناتها مشاركة خالصة بصدق ..
فعلى الجيل الجديد أن يقرأ ويقرأ .. للأساتذة السابقين ليكتسبوا الخبرة منهم بدلا من أن يقرأ بعضهم لبعض ..
ولى كلمة صغيرة للجيل الجديد أن عليهم أن يأخذوا انفسهم بالجدية والصبر ، فالأدب يتطلب الكفاح الشديد حتى يثبت الإنسان نفسه وسط العدد الهائل من كتاب القصة فيظهر ويأخذ مكانه ..
* كان للصالونات الأدبية دورها فى الحياة الأدبية فى مصر .. هل الجمعيات الأدبية والنوادى الموجودة الآن تحل محل الصالونات وتقوم بالدور الذى كانت تقوم به ..؟
ـ الصالونات الأدبية كان لها دور كبير ومؤثر .. فصالون مي مثلاً كان ينبض بالحرارة لأن صاحبة الصالون كانت جميلة ، وكان كل أديب من الأدباء يتردد على هذا الصالون يتصور أن مي تخصه بعواطفها ، فكان يتبارى كل أديب فى عرض أحسن ما عنده .. فكان لهذا تأثير كبير فى تنشيط الحركة الأدبية فى ذلك الوقت ..
أما الجمعيات الأدبية الآن مع كثرتها لا تؤدى هذا الغرض وليس لها التأثير الذى كان فى مطلع القرن العشرين .. فالصالون الأدبى خرج منه مصطفى صادق الرافعى والعقاد والمازنى وطه حسين ..
أما الجمعيات الأدبية الموجودة الآن ، فليس لها قوة الصالونات التى دفعت هؤلاء الكبار إلى التجديد فى أعمالهم ..
ورغم هذا أشير إلى دور نادى القصة فى ابراز بعض المواهب الجيدة ، ولكنها مع الأسف لم تواصل السير فى الطريق ..
* ما رأيك فى موقف النقاد من الانتاج الأدبى ، وبماذا تعلل عدم متابعتهم لهذا الانتاج ..؟
ـ أحب أن أقرر أولا أنه من المفروض أن يكون لكل صحيفة أديب متخصص للنقد ، ولكن للأسف هذا غير موجود فى جميع الصحف التى تصدر فى مصر .. وترتب على ذلك وجود الصداقات والعواطف الشخصية فتكونت الشللية ، ووجد مجموعة من النقاد أصحاب الايديولوجيات يجتمعون فى أماكن لهم ويقررون هذا الكتاب نكتب عنه وهذا الكتاب لا نكتب عنه ، فيقاطعونه مثل مقاطعة دول الرفض تماما .. وأحيانا يصدر كتاب فيقدمه صاحبه لناقد صديق ، أو له صلة شخصية به ، ويطلب منه بالحاح أن يكتب عنه .. وأحيانا يكون المؤلف نفسه هو الكاتب والناقد للكتاب ..
مثل هذا بالطبع لا يسمى نقدا .. وترتب على ذلك أن دخلت الكتب فى تيه ودوامة ، وأصبح القارىء لا يعرف الغث من الجيد .. فالنقد بهذه الصورة منذ عشرين عاما لايؤدى دوره المطلوب منه ..
فالمازنى مثلا كان ينقد فى البلاغ ، والعقاد كان ينقد فى الأخبار وكوكب الشرق ، وكذلك زكى مبارك ، فهؤلاء الفطاحل لم يميزوا بين كاتب وكاتب سواء كان كبيرا فى السن أو صغيرا أو مشهورا أو غير مشهور .. فكنا نرى المعارك الحامية بينهم ، فقد حصلت معركة حامية الوطيس فى النقد بين العقاد ومصطفى صادق الرافعى ، معركة ليس لها مثيل لدرجة أن مصطفى صادق الرافعى كان يشوى العقاد على " السفود " ..
* بمن تأثرت من الشخصيات ، وما هى الكتب التى كان لها أثر فى تكوين شخصيتك الأدبية ..؟ وحدثنا عن رحلتك الأدبية ..
ـ قرأت دون مبالغة جميع كتب التراث التى طبعت فى مصر ، وأنا طالب قرأت الأغانى وصبح الأعشى وعيون الأخبار والأمالى .. وعندما صدرت مجلة الرسالة سنة 1933 كنت أستطيع إلى حد ما الترجمة من اللغة الإنجليزية ، فترجمت قصصا لتشيكوف ومكسيم جوركى وموبسان وبعثتها للزيات فنشرها جميعها فى السنة الأولى للمجلة .. وبعد رحلة إلى أوربا كتبت كتابا صغيرا يسمى " الرحيل " وطبعته على نفقتى الخاصة ، وبدأت بعد هذا الكتاب أؤلف القصص ، وكان معى مجموعة صغيرة تسمى " رجل " وذهبت بها للأستاذ الزيات وكان يعرفنى مترجما .. لأنشر عن هذا الكتاب اعلانا صغيرا فى مجلة الرسالة ، فسألنى عن مضمونه فأخبرته به .. وقلب فى الكتاب فوجد قصة باسم " الأعمى " فطلب منى تلخيصها بايجاز ، فعرضت عليه لب الفكرة ، فسر بها جدا ، وقال تسمح لى بنشرها فى المجلة .. ونشرها فعلا على عددين ، وقد تلقيت وتلقى الزيات أيضا كثيرا من المكالمات والرسائل من القراء حول هذه القصة وسلمنى هو هذه الرسائل ، وحدثنى عن المكالمات ، وهذا يدل على خلق الرجل وتشجيعه لشاب فى أول مراحل حياته الأدبية ..
بدأت بعد هذه القصة انقطع عن الترجمة للزيات وأكتب قصصا مؤلفة ..
وتأثرت فى قراءاتى بأسلوب المازنى واعتبره أستاذى ، ومن ناحية التكنيك والبناء القصصى والتركيز وطرق الموضوعات الانسانية البحتة التى تهز مشاعر القارىء من تشيكوف ، ثم الواقعية بصدق دون افتعال للحوادث .. والاعتماد المطلق على ذكاء القارىء .. فأنا أعرض الشخصية بخيرها وشرها كما هى فى الحياة دون وعظ فأنا لست واعظا .. وأنى أعتقد يقينا أن كل إنسان يكتب بصدق وايمان واخلاص لفنه لابد أن يعيش مهما تكن الظروف والمعوقات ، أما السياسة فإنى العنها وألعن الف مرة مشتقات هذه الكلمة ، ولقد قضيت حياتى بعيدا عنها .. وقد لعنها من قبلى الإمام محمد عبده .. وأنا لا أكتب قصة وأجعل بطلها وفديا أو دستوريا أو حزبا وطنيا أو غير ذلك .. إنما أكتب القصة بطلها مصرى خالص لمصر وقد كتبت كثيرا من القصص الوطنية أيام الاحتلال البريطانى كما لعنت اليهود فى غاراتهم على المدن المصرية وقتلهم الأطفال والنساء وتخريبهم للبيوت فى السويس وبور سعيد والاسماعيلية ..
* كتبت عن المرأة أماً وزوجة وعشيقة ، وكانت نظرتك لها إنسانية ليس فيها تجنى ، فما سبب ذلك ..؟
ـ هذه النظرة إلى المرأة طبيعية بحكم تكوينى باعتبارى أننى ريفى صعيدى هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إن الإنسانية متغلغلة فى دمى وهذا لا يجعلنى انظر إلى المرأة غير هذه النظرة ..
وأعتقد أن المرأة فى المجتمع الشرقى مظلومة ، وهى لم تتحرر ولم تأخذ مكانتها إلا على مدى سنوات قريبة ، وقد كانت فى العصور الأولى ، لاتعتبر أكثر من أداة متعة ، أما الإسلام فقد حرر المرأة وأوجد لها مكانتها فى التاريخ ، ولقد كان منها من يقاتل فى عصر النبى ، ويضمد الجرحى ويخطب ويناقض عمر بن الخطاب فى تشريعاته ، ولكن بعد الخلافات الشديدة التى حدثت بين العباسيين والأمويين والانتكاسات التى حصلت بعد مقتل الحسين ، تدهورت حالتها فى هذا الجو الكئيب من الفتن والدسائس حتى أصبحت جارية تباع وتشترى ..
وبالنسبة لمصر طبعا بدأت الانتفاضة بالنسبة للمرأة بعد عصر قاسم أمين ، فقد دافع عن المرأة دفاعا حارا وبين مكانتها فى صدر الإسلام وفى عهد الخلفاء الراشدين وتأثيرها على من بعثوا الثقافة إلى أوج عزها فى عصر هارون الرشيد والمأمون .. وطبعا لاقى قاسم أمين الاعنات من بعض المتخلفين وذوى العقول الجامدة ، ولكنه انتصر ، وظهر انتصـاره عندما بدأت السيدة هدى شعراوى وعائشة التيمورية ..
وبعد ذلك حدث تطور سريع ودخلت الفتاة المصرية الجامعة لأول مرة ..
هذه نظرة تاريخية على دور المرأة والظروف التى مرت بها ..
وجد الأدب فى هذه الظروف فقد كانت المرأة تصور وخيال ، حيث لم يكن هناك اختلاط كلى بالمرأة إلا بعد أن خرجت إلى العمل فى الأربعينيات وأصبحت موظفة فى كل مرافق الدولة .. فأصبحت بذلك تجربة الأديب بالنسبة للمرأة حية وصادقة ..
وأشير أيضا إلى أن الاحتلال البريطانى ووجود الأجانب فى مصر أدى إلى وجود البنسيونات والغرف المفروشة ولم تكن موجودة من قبل .. وقد ظهر أثر البنسيونات فى قصصى لأنى عشت سنين طويلة فى هذه الغرف باعتبارى طالبا وحيدا فى القاهرة ..
* ما هى أحب المجموعات القصصية إليك .. ولماذا ..؟
ـ العربة الأخيرة ، والذئاب الجائعة ، وزوجة الصياد ، والسفينة الذهبية .. لأنها كتبت فى جو كنت فيه مستريح النفس نسبيا ، وكثير من هذه الشخصيات فى هذه القصص لامست حياتها وظروفها المعيشية بنفسى عن تجربة خاصة ، ومع أن كل ما كتب أعتقد فيه الصدق ، ولكن فى هذه الكتب كان الصدق واضحا ..

ليست هناك تعليقات: