الثلاثاء، ٩ أكتوبر ٢٠٠٧

محمود محمد شاكر و مجلة العصور

(6)
ذكريات مطوية
محمود محمد شاكر ومجلة العصور
بقلم محمود البدوى

التقيت بالأستاذ محمود محمد شاكر فى مجلة الرسالة للزيات فى أول عهدها بالصدور .. وكانت فى حى عابدين .. وكان الزوار من الأدباء والشعراء قلة .. لأن الأستاذ الزيات يريد أن يتفرغ لعمله الذى يقوم به وحده .. ولأن معظم المقالات ترد بالبريد .. والبريد مفخرة لمصر فى الدقة والنظام ..

وفى هذا الجو الهادىء تحدثت مع الأستاذ شاكر .. وتفتحت نفسى له .. وتعدد اللقاء .. ثم أصبحت أزوره فى بيته ..

وكان يسكن فى ذلك الوقت فى أقصى أطراف ضاحية مصر الجديدة من الناحية الغربية .. وكان بيته نهاية البيوت فى تلك المنطقة .. وأمامه فضاء واسع .. ورمال بيضاء شهباء لاتغفل عنها عين الشمس ..
ثم خزانات المياة التى تغذى الضاحية الجميلة ..

والجلوس فى شرفته بعد غروب شمس الصيف .. متعة للبصر وراحة للنفس .. فمن هذا الفضاء الفسيح تهب نسمات الغروب منعشة وصافية وطليقة لا تحدها عمارات ولا مداخن .. ولا يزعج المتأمل فى السكون الشامل .. ضجيج السيارات ولا زعيق الباعة ..

ان هذا الشارع يسمى الآن شارع عبد العزيز فهمى .. ويسير فيه المترو المسمى بنفس الاسم إلى أطراف واحة عين شمس ..!

وكان الأستاذ شاكر يقيم فى الطابق الرابع إذا أغفلنا الأرضى ..

وفى شرفته الواسعة المطلة على الصحراء .. جلسنا وشربنا الشاى وتحدثنا عن الأدب ورجاله .. وكان يقوم على خدمته طباخ فوق الخمسين من عمره .. كان فى بيت والده وأخذه الأستاذ شاكر بعد وفاة المرحوم الوالد .. وأبقاه عنده .. ولحرص الأستاذ على كتبه العربية النادرة والوثائق الأدبية التى لا تقدر بثمن .. كان من العسير عليه أن يستخدم غيره فى بيته .. والكتب تملأ الصالة ، وحجرات المنزل من الأرض إلى السقف .. وكان المكتب فى حجرة على يسار الداخل وفيها يطالع ، ويكتب لقراء العربية روائعه ..

وكنت اصطحب معى فى الزيارة التى كانت تحدث غالبا مع غروب شمس يوم الجمعة وفى أيام غير متقاربة .. المرحوم الدكتور أحمد عبد المنعم البهى الأستاذ السابق بكلية الشريعة جامعة الأزهر .. والذى كان سكرتيرا لتحرير جريدة المصرى حتى وهو طالب ..
كنت أصطحبه أو أرافق المرحوم هلال شتا الموظف بمجلس الأمة ..

وكان الاثنان من أشد الناس اعجابا بالأستاذ شاكر فيما ينشره بالمقتطف والرسالة ..

وكنا نجد عنده الشاعر محمود حسن اسماعيل .. وكان قليل الحديث سارحا فى تأملاته .. ولا نرى فيه إلا شعرا هائجا منفوشا وعينين حمراوين تدوران كالزئبق الرجراج ..

وقد رافقنى المرحوم محمود حسن اسماعيل .. والشاعر الفنان صلاح عبد الصبور فى بعثة ثقافية عام 1973 إلى تفليس .. والشاعران صديقان حميمان من قديم الزمن .. وكنت أحسبنى سأكون دخيلا عليهما فى هذه البعثة .. ولهذا شعرت بالتحفظ الذى هو من أخص طباعى .. ولكن بعد ساعة واحدة من وصولنا إلى هناك وجدت فيها من نبالة النفس ، وسماحة الخلق .. ما يجل عن الوصف .. وكان صلاح عبد الصبور من الكرم الحاتمى إلى الحد الذى جعلنى أسأله هل هو شرقاوى أو صعيدى ، فإذا هو يجمع بين الاثنين معا !!..

فقد غطى كرمه وتفتحه النفسى على الوفد الذى معه .. " وكنا نرى فى وجوه المسلمين فى تفليس السرور الذى شاهدوه فى أعيننا وقلوبنا .. ولما دخلنا المسجد فوق الربوة التى غطتها الثـلوج .. انزوى محمود حسن اسماعيل فى ركن وتوهجت عيناه .. وعند ئذ أدركت أن هاجسه الشعرى قد هبط وتملكه ..

وكان الأستاذ شاكر يقول لنا .. بعد شرب الشاى .. وصلتنى اليوم قصة من يحيى .. يقصد الأستاذ يحيى حقى .. ( وكان وقتها فى الخارج بالسلك السياسى ) .. وكان يحيى يبعث له بالبريد قصة .. لنشرها فى المجلة التى يختارها الأستاذ شاكر ..
ولا يزال يردد .. يحيى قال .. يحيى فعل ..

وكان الأستاذ شاكر معجبا بصديقه يحيى إلى الحد الذى يتصور معه المستمع أنه لايوجد كاتب فى مصر يكتب القصة مثل يحيى حقى ..

والأستاذ شاكر رهين كتبه وهو مثل الجاحظ لايبرح بيته إلا نادرا .. ولكنا لسبب لا نعرفه أصبحنا نتلاقى فى قهوة بور فؤاد ثم فى قهوة بشارع دوبريه ( تحولت الآن إلى متجر ) وكان يحيى حقى .. يجيىء فى الأجازات إلى هذه القهوة ..

وقد رأيته لأول مرة فألفيته وديعا رضيا قليل الكلام .. ولا أدرى كيف انطلق فى هذه الأيام وأصبح من خطباء الإذاعة ..!!

وفى القهوة انضم إلينا طبيب الأسنان الدكتور رمزى مفتاح والمرحوم غريب والشاعر أحمد فتحى مرسى .. ورفيقه فى زمالة الحقوق والشعر الشاعر إبراهيم طلعت .. كلما جاء من الإسكندرية لعمل فى القاهرة .

وكان الدكتور رمزى يحضر بعد انتهاء عمله فى العيادة .. وحديثنا يدور عن الكتب الجديدة .. وكان الكثير منها للعقاد والمازنى .. وكان الدكتور رمزى .. وغريب لا يحبان العقاد كشاعر وينتقصان منه .. وأنا وهلال وفتحى مرسى وطلعت .. ندافع عنه بحرارة ككاتب وشاعر من أفذاذنا ومفاخرنا .. وقال لى هلال .. " إن غريب يكره العقاد .. لأنه اشتغل فى جريدة فيها العقاد .. وكان العقاد السبب فى نقص أجره الشهرى .. فحملها له وظل يحملها " ..

وكان غريب هجاءً من طراز نادر .. كما كان السبب فى غلق الكثير من الصحف والمجلات أيام صدقى باشا والوفد .. وقد جر معه المرحوم هلال .. الذى كان موظفا فى مجلس الأمة .. وكان يكتب معه المقالات السياسية ويوقعها باسم مستعار ..

وكانت هذه المجلات تصادر جميعها .. ولا تعيش أكثر من أسبوع .. الصـاعقة .. الضحى .. وغيرهما كثير .. وفى مجلة من هذه المجلات كتب " جبان خسيس " .. تحت رسم للرسام رخا .. سبا قذرًا فى صدقى باشا .. وظهر العدد وفيه هذه السبة الوقحة وسجن بسببها رخا خمس سنوات ..

وإلى اليـوم لا يعرف رخا .. ولا صاحب المجلة .. ولا المحررون فيها .. ولا عمال الطباعة .. من الذى كتب هذه السبة اللعينة ..

وما أصاب رخا .. أصاب المرحـوم هلال ولكن بطريقة أخرى .. اخف من السجن .. فقد مر السكرتير العام للمجلس الذى يعمل فيه هلال ( والمجلس وقتها وفدى والحكومة وفدية ) .. مر فى صباح يوم على مكتب هلال ( بعد وشاية من زميل ) فوجده يكتب بداية لمقال سياسى عنوانه " تحت اللواء " .. فالتقط المقال بخفة الثعلب .. ونقل هلال من مجلس الأمة .. إلى كاتب قيودات فى أرشيف مديرية الجيزة .. وقد لاقى المسكين العذاب الأكبر من جراء هذا النقل .. وقد استغرقته فحولته عن الأدب مع أنه بدأ بداية طيبة وكان يمكن أن يكون له شأن لو استمر فى طريقه الأول ..

وتحت اللواء يعنى تحت العلم المصرى .. ولا أدرى الذى كتب فى سياق المقال ، وكان السبب فى العقاب ..!

ولم تكن هذه الحوادث درسًا ملموسًا لى لأبتعد عن السياسة وعن الكتابة فى هذه المجلات .. فأنا بطبعى وتكوينى الخلقى لا أحب السياسة ولا الأحزاب وأكرهها كره الأعمى للحفر فى الطريق .. ولا يمكن لإنسان يحب العزلة ليقرأ ويكتب أن يشترك مع الجماهير فى ضجيجها وصخبها .. على أى صورة من الصور .. وحب الوطن ومن خدمه بإخلاص وأمانة من رجالنا الأفذاذ عبر التاريخ كله .. سيظل محل الاحترام والتقديس ما دامت الحياة ..

وأبطالى مصريون خلص .. وما أشرت فى أية قصة من قصصى إلى شخصية وفدية أو سعدية أو خلافهما .. فالذى يجابه الاستعمار ويحـاربه أيام الاستعمار الإنجليزى هو مصرى خالص المصرية ..

وكان غريب الذى درس فى الأزهر .. متفقا فى المشارب والذوق الأدبى واختيار أروع القصص .. مع الدكتور رمزى الذى درس فى طب الأسنان بمصر .. وسافر كثيرا إلى لندن .. وليس فى هذا غرابة .. فالذوق السليم يأتى من الفطرة .. وبالسليقة ..

وكلما كان الإنسان عميق التفكير .. بعُد نظره وحسن اختياره ، ولهذا التوافق فى المشارب ، كان الاثنان لا يفترقان إلا نادرًا ، وكأنهما يلبسان ثوبا واحدًا .. وغريب مسلم .. ورمزى مسيحى .. ولكن الفنان الأصيل بطبعه .. لا يخطر على باله التعصب الدينى ولا يفكر فيه قط .. ولا يحسب حسابا لفارق الدين ..

أما المتعصب فساقط من المجموع .. ومحتقر من زمرة الأدباء وزمرة الشعراء والناس أجمعين ..

وكان غريب وهو المتزوج الوحيد فينا يولم لنا وليمة فى كل مولد نبوى .. بيته فى مساكن الشركة الواسعة بمصر الجديدة .. ولم يكن الأستاذ شاكر يحضر معنا هذه الوليمة .. لانشغاله بكتبه ومقالاته .. وكنا نجد الفرصة فى غيابه للاشادة بكتبه ومقالاته .. وأسلوبه الفذ المتفرد الذى أكتسبه من اطلاعه الواسع الدقيق فى كل ما كتبه بلغاء العرب .. وحرصه الشديد على اختيار الألفاظ وسلامة الجملة وبلاغة المعنى ..

وفجأة ودون تمهيد وجدت الأستاذ شاكر يحدثنى عن اصدار مجلة أدبية .. ولا أدرى متى نشأت فى رأسه هذه الفكرة واختمرت إلى حيز التنفيذ ..

والأستاذ شاكر إذا فكر فى شىء يندفع إليه بقوة .. عرفنى أنه قابل الأستاذ إسماعيل مظهر واتفق معه على معاودة إصدار مجلة " العصور " وبقوة الصاروخ وانطلاقه وجدته يجمع المقالات ويعد العدة لإصدار المجلة ..

وكنا نجتمع فى قهوة بورفؤاد .. وطلب منى قصة .. وكتابة القصة تستغرق منى وقتا طويلا قد يصل إلى شهر أو أقل أو أكثر .. حسب حالتى النفسية وتجاربى السابقة .. وهضم هذه التجارب والانفعال بها .. وخشيت ألا أستجيب لطلبه .. فأشعر بوخز ضمير شديد الوقع ..

ووفقنى الله فى كتابة قصة .. وقرأها وأنا جالس معه فى القهوة .. وتناقشنا فى بعض ألفاظها وهو دقيق للغاية فى سلامة التراكيب واختيار الألفاظ المناسبة للمعانى .. وقد تعلمت منه اختيار اللفظ الذى يرسم الصورة الذهنية الدقيقة فى رأس القارئ .. ويرسمها بوضوح دون غموض أو لبس ..

وفى الجلسات التالية .. جاء معه المرحوم سعيد العريان وكان الأستاذ شاكر قد اتفق على طبع المجلة فى مطبعة مجلة الإسلام وصاحبها أمين عبد الرحمن .. فانتقلنا إلى المطبعة بشارع محمد على ..

وكنت أشـعر بسعادة غامرة .. وأنا أشاهد دوران المطبعة عن قرب .. وخروج الملازم مطبوعة .. والأستاذ شاكر مستبشر ضاحك .. وسعيد العريان يبتسم فى وداعة واستبشار .. والسعادة بادية فى الجو كله على وجه الطابع والناشر وصاحب المجلة الجديدة ..

وكنا نحن الثلاثة نكتب فى مجلة الرسالة .. ولم نشعر قط بوخز الضمير فقد كان الجو الأدبى يتسع لعشرات المجلات الأدبية ..

ولكنا علمنـا أن أستاذنا الزيات تأثر .. وتضايق وخشى من المنافسة .. لأن العصور أخذت الكثير من كتاب الرسالة ..

وصدر العدد الأول من مجلة العصور فى عهدها الجديد ورئيس تحريرها الأستاذ شاكر .. صدر فى طباعة جميلة وإخراج أجمل ومقالات قيمة .. ونفد المطبوع جميعه وزادت فرحة الأستاذ شاكر فلم يكن يتوقع مثل هذا الانتصار .

وأخذ يعد العدة بكل طاقته للعدد الثانى .. وكان المرحوم سعيد العريان أكثرنا فرحا .. وكان هو الذى يراجع بروفات الطبع .. وقرأ قصتى وأبدى رأيه فيها .. وظلـت صلتى به قوية من وقتها إلى أن سافرت فى بعثة وزارة التربية .. كأديب .. إلى الهند والصين واليابان .. وكان هو فى ذلك الوقت وكيل وزارة التربيـة .. فوجدته يذكر الصلة القديمة بكل ما فيها من ود وصفاء .. وسر جدا لوجودى فى هذه البعثة .. وقد ذكرته بالخير كأديب عربى أصيل فى كل مكان حللت فيه ..

علمنا أن الزيات تضايق من صدور مجلة " العصور " ولم نكن نفكر فى هذا قط ولا نتوقعـه لأن الجمهور كان يقبل على قراءة المجلات الأدبية بشكل مثير ..

ولم يكن الأستاذ شاكر من طبعه التراجع .. فأقبل على إصدار العدد الثانى بالحماس الذى صدر به العدد الأول ، وفى نفس المطبعة ..
ونفد العدد الثانى كما نفد العدد الأول ..

والأستاذ شاكر طويل القامة فى نحافة .. حاد الصوت والنظرة ، فيه عنف العربى إذا أثير .. ولكنه مع صلابته يلقاك بالبشاشة والود .. وما لقيته إلا مبتسما .. وحتى بعد هذا الانقطاع الطويل .. عندما قابلته فى اتحاد الكتاب منذ سنتين .. وجدت فى قلبه وعينيه نفس الابتسامة ونفس الود القديم ..

والأستاذ شاكر كأديب من أعلامنا نفخر ونعتز به ، يكن لاثنين بالمودة الخالصة .. فؤاد صروف ويحيى حقى ..

وفؤاد صروف لأنه عالم وأديب .. وعندما تولى هو وشاكر اخراج النسخة العربية من مجلة المختار ، كان المختار فى عهدهما درة من الدرر التى تقرأ بالعربية لحسن الاختيار ودقة الترجمة ورصانتها والاحتفاظ بروح الكاتب الأجنبى وأسلوبه وفنه ..

ويحس القارىء بالفارق الكبير بين عهدهما وعهد من جاء بعدهما ..

ومع هذا فقد سمعت من الأستاذ شاكر .. أنه كان يتمنى ألا يسند إليه هذا العمل وأرجعت ذلك إلى وطنيته المشتعلة فى نفسه دوما ، ولكرهه الشديد للإنجليز المستعمرين لبلادنا وقتها .. ولأن بعض الأجانب الآخرين كانوا ذيولا لهم ..

أما يحيى حقى فيكن له بالمودة لأنه صديقه ويؤمن به ككاتب وأديب فى طليعة كتابنا ..

ولسبب لا أعرفه أنا ولا المرحوم سعيد العريان لم يصدر العدد الثالث من مجلة " العصور " ..

وكانت صدمة تلقيناها بالصبر والتأمل .. ككل الصدمات فى حياتنا ..

==================================
نشرت الذكريات فى مجــلة الثـقافة ـ السنة السـابعة ـ العـدد 78 ـ مارس 1980 وأعيد نشرها فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006

==================================

ليست هناك تعليقات: