الاثنين، ٨ أكتوبر ٢٠٠٧

قصة الأعسر وحكايتها


الأعسر

تحركت السيارة بعد ليلة ممطرة لم يحدث مثلها فى الصعيد .. على طول خط السيارات .. من الجيزة إلى منفلوط .. وسقط المطر بغزارة .. وسبب الوحل ، مثل رغو الصابون ..
ولكن السائق لم يعبأ بهذا كله .. وانطلق فى سرعة الريح على الأرض اللينة ..
وكان الركاب الأربعة صامتين ولكن ثلاثة منهم كانوا يتبادلون السجائر بشراهة .. السيجارة تشتعل من عقب السيجارة .. وكان يبدو على وجوههم الغضب والتوتر ..
وكان هؤلاء الثلاثة مسلحين .. فى أيديهم البنادق أمسكوابها وشرعوها كأنها مرخصة .. وفى اللحظات التى كانت السيارة تعبر فيها نقط المرور وتهدىء من سرعتها قليلا تظل البنادق فى أيديهم ..
كانوا قتلة .. ومنذ ساعات قليلة .. ارتكبوا جريمة القتل .. مع الريح العاصفة .. واستقلوا بعدها السيارة متجهين إلى العاصمة ..
وفى الطريق .. بعد مشارف " المنيا " ركب الرابع .. ولم يكن القتلة يريدونه منهم ولكن نظرة صارمة من السائق الجمتهم .. وأجلسه السائق بجانبه .. ولم يكن هذا الراكب يدخن .. ولكنه رضى بجو التدخين يملأ جوف العربة ..
ونظر إلى وجوههم مرة واحدة بعد أن ركب .. ثم استقام بجذعه على الطريق .. وكان بصره يتجه إلى الأمام .. إلى حيث الجهامة المطبقة على الجانبين .. وإلى أنوار السيارات المضادة التى تلمع على الأرض المبلولة ..
كان السائق يحرك عجلة القيادة بذراع واحدة .. مرة بالذراع اليمنى وأخرى باليسرى .. ويميل بكتفه مع كل ذراع .. كان قوى العضـل مفتول الساعد .. فى الثلاثين من عمره .. أسمر خفيف الشارب .. واسع العينين .. أخضرهما فى لمعان وحدة بصر ..
وكان راديو السيارة هو شاغله الشاغل .. فأخذ يغير ويبدل فى المحطات .. ثم ما عتم أن أغلقها جميعا .. وشغل التسجيل ..
وكان صوت السيارات يزعق .. ولكنه يذهب سدى فى دوى ريح الشتاء ..
وقلت سيارات الأجرة على الطريق .. ولم يعد يشاهد إلا اللوريات الكبيرة محملة بأكياس الغلال ، والأسمنت ، وألواح الخشب ، والصناديق الكبيرة ، وأسياخ الحديد .. وعلى ظهورها ينام العتالون مسترخين لايعبأون بشىء مما يجرى بين مطر وريح ..
وكان الثـلاثة الذين احتلوا المقعد الخلفى فى أغلب حالاتهم صامتين .. ويتبادلون كلمات قليلة من حين إلى حين ..
والسائق قد أطفأ النور فى جوف العربة .. فأصبحت عيونهم تلمع ، ويزداد لمعانها كلما أشعلوا ولاعات السجائر ..
وكانوا يرتدون جلابيب سمراء ، ولبدا خضراء ، غطوها بملاحف صوفية داكنـة ، أداروها حول أعناقهم ، وتركوها تتدلى على صدورهم ..
وظهرت للعيان ساعة ذهبية تبرق فى الظلمة .. وكان صاحبها يجلس إلى يسار السيارة من وراء السائق وهو أصغر الثلاثة ..
وأوغلت السيارة فى الطريق .. وشعر الراكب الرابع بالخوف .. والخوف الشديد .. ولعن الظروف التى جعلته يسافر فى الليل .. كان خوفه من الركاب معه .. أضعاف خوفه من مخاطر الطريق ..
وكان كلما نظر إلى السائق المطمئن الواثق من نفسه وعمله .. شعر ببعض الاطمئنان .. ثم ما يلبث أن يعاوده الخوف من جديد . وخلال ساعة كاملة شعر برهبة الظلام وشدة البرد والرعب من المكان .. ثم استسلم وظل صامتا .. ولم يتبادل مع الركاب الثلاثة كلمة واحدة ..
وتقدم له أحدهم بسيجارة وهو يوزع السجائر على رفيقيه فقال له شاكرا :
ـ اننى لا أدخن ..
ـ أبدا ..!
ـ أبدا .. لم أضع سيجارة فى فمى ..
فنظروا إليه فى عجب .. وأخذوا ينفثون دخانهم ..
وبعد مدينة " بنى سويف " وقف السائق عند قهوة صغيرة ، كانت لاتزال ساهرة .. وبجانبها من يشوى اللحم على النار ..
وركن السائق العربة ليستريح ويأكل .. وكانت السماء معتمة كابية النجوم ، والبرودة شديدة .. ومصابيح بعيدة تعكس أضواءها على الترعة ..
ونزل الراكب الرابع غير المسلح مع السائق .. وفى عزمه أن يعفى السائق من ثمن طعامه .. وجلس إلى طاولة منفردة بعيدة عن مسقط الريح .. وطفقا يأكلان ..
وكان الثلاثة المسلحون ، قد ترددوا بعض الوقت فى النزول من العربة .. ثم لما بصروا بأكواب الشاى وشموا رائحة اللحم المشوى على النار ووجدوا المكان خاليا .. بارحوا العربة ودخلوا المقهى وجلسوا إلى مائدة فى الزاوية اليسرى ..
ووضعت أمامهم أرغفة كثيرة وطعام أكثر .. وشرعوا يأكلون بسرعة وشراهة ..
وسأل الراكب الرابع السائق ..
ـ أتعرفهم ..؟
ـ أبدا هذه أول مرة أرى فيها وجوههم ..
ـ ولماذا الأسلحة فى أيديهم دائما .. حتى وهم يجلسون للطعام ..؟
ـ لأنهم قتلة ..
ـ قتلة ..؟ !
ـ قتـلة .. ويقتلون أى إنسان .. متى دفعت لهم الأجر .. مجرمون .. أخس أنواع البشر ..
ـ قد يفكرون فى قتـلى .. لمجرد التصور .. أن حقدهم أسود مدمر ..
ـ لاتخف .. ولا تفكر فى هذا .. فأنت فى ضيافتى .. وأنا الذى أركبتك العربة لا هم .. وإذا مسوا شعرة من رأسك سأحشهم ..
ـ تحشهم ..! كيف ..؟ بيديك ..!!
ـ أجل بيدى هاتين .. ولا تضحك ..!
واستطرد السائق :
ـ انى أشتغل على هذه العربة فى الليل ..
ـ وهل من يعمل فى الليل والظلام يكون مخلوع القلب ..؟
ـ ان صاحب القلب المخلوع مشلول الحركة إلى أبد الآبدين .. لقد ركبت الكثير من أمثالهم وهم فى داخل عربتى أجبن من الكلاب .. وهناك دوما فى الحياة من هو أقوى من كل قوى .. تلك هى سنتها ..
وسر الراكب الرابع من كلام السائق وأحس بالاطمئنان التام لثقة السائق فى نفسه وقوة شخصيته ..
ودخل المقهى فى هذه الساعة شاب خفيف الوطء .. ربعه فى الرجال مالوحا .. قصير العنق ، حليق الذقن ، حاد النظرات .. وكان على كتفه الأيسر بندقية قصيرة جدا .. ودخل هادئا وحرك الطاولة التى سيجلس إليها .. ثم الكرسى وجعل ظهره للحائط وعينيه على الوجوه التى أمامه ..
وكانت الاضاءة فى القهوة خفيفة ، والنار مشتعلة فى الداخل ، وبدا وجهه الطويل الأسمر وعيناه تبرقان فى لفحة الضوء ، وحمل إليه الشاى فتناوله بيده اليسرى وأخرج محفظته بيده اليسرى كذلك ، فبدا من كل هذه الحركات أنه أعسر .. ولا يستعمل يمناه قط ..
وجلس يدخن فى هدوء وصمت .. ثم سأل وفى صوته الوداعة :
ـ من الأخ صاحب العربة الواقفة هناك ..؟
فرد السائق :
ـ أنا ..
ـ أتسمح وتأخذنى معك لغاية الجيزة ..
فرد أحد المسلحين بخشونة ظاهرة قبل أن يجيب السائق :
ـ العربة مشغولة .. ولايوجد مكان ..
ـ اننى أكلم السائق .. ولم أكلمك ..
وهنا رد السائق مخاطب الأعسر ..
ـ مرحبا بك .. عندى مكان ..
ـ العربة مشغولة يا أسطى .. ولن يركبها راكب جديد ..
ـ العربة عربتى .. وهناك مكان شاغر للسيد ..
ـ قلت لايوجد مكان .. وهيا لنسافر ..
ورد السائق بهدوء :
ـ اننى أريح المحرك .. وأمامنا ربع ساعة أخرى ..
وقال المسلح بغيظ :
ـ قلت هيا .. فهيا ..
وحرك المسلح بندقيته ، وأطلق طلقة بين رجلى السائق للارهاب .. وظل السائق فى مجلسه ساكن الطير رابط الجأش .. وهنا تدخل الأعسر وتقدم نحو المسلح الذى أطلق النار .. وقال له بتؤدة :
ـ الأمور لاتعالج هكذا أيها الأخ ..
ـ كيف ..؟
ـ سمعته يقول لك أنه يريح الموتور .. ثم ان من يطلق النار على رجل أعزل جبان ..
ـ تسميه أنت جبانا ..؟!
ـ بل ومن أحط وأخس أنواع الرجال .. إنى أعرف أن الليلة ستكون سوداء ..
وخيم الوجوم ولمعت العيون تنذر بالشر .. وتحرك المسلح ومعه رفيقاه إلى الخارج بظهورهم .. وراوغ الأعسر كأنه سيتبعهم ثم استدار فى سرعة خاطفة إلى جدار القهوة الخارجى .. وفى هذه اللحظة كانوا قد أطلقوا عليه النار ولكنهم أخطأوه .. فصوب عليهم رشاشه ببراعة عديمـة النظير .. وظل مشتبكا معهم وحده فى معركة رهيبة انتهت سريعا ..
وجعل كل خبرته كمقاتل ليس له ضريب .. أن يبعدهم عن القهوة حتى لا يصيبوا بريئا .. ونجح فى هذا ، وظل يطاردهم بعنف وضراوة إلى أن سكت صوت الرصاص وخيم السكون ..
وعندما لاح نور الفجر .. وجدوا الثلاثة فى صف واحد تحت جسر الترعة وقد مزق الرصاص أجسامهم ..
وكانت آثار الأعسر واضحة من أعقاب السجائر التى تركها بعد المعركة .. وخط سيره يدل على أنه أخذ سيارة .. بعد أن سار على قدميه ما يقرب من ربع فرسخ ..


===============================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 71 فى أغسطس 1979
===============================





قصة القصة
الأعسر


سافرت فى عمل إلى مدينة كبيرة فى الصعيد .. وكنا فى الشتاء والجو ينذر بالمطر والعواصف فى القاهرة التى سافرت منها على الأقل .. وقدرت أنه لن يكون على درجة أخف فى الصعيد ..
ولكنى عندمـا ركبت القطار وجـدت الحالة من السوء فى كل محطة .. والمطر يغطى أرصفة المحطات وأسطح القطارات .. ويكون بركا فى الشوارع ..
ومع كل هذا فقد كان علىَّ أن أعود إلى القاهرة فى نفس اليوم .. لأمر يتعلق بالأسرة أكثر من أى شىء آخر له صلة بالعمل الذى سافرت من أجله ..
وفى الغروب دخلت المحطة التى نزلت فيها ظهر اليوم .. لأعود إلى القاهرة .. فلم أجد تذكرة واحـدة فى كل القطارات الراجعة من أسوان ..
وقد جربت ركوب القطار من غير تذكرة من قبل ودفع الغرامة ..
وكرهت هذا ونبذته إلى الأبد .. فإنك تقف فى وسط عربة جوها يخنق الأنفاس .. ونصف ركابها من النائمين .. وقل من يعبأ من الصاحين منهم والفاتحين عيونهم حتى بسيدة حـامل تقف متوجعة وهى فى شهرها التاسع ..! الكل يحرص على المقعد الجالس عليه بوحشية وأنانية .. انمحت كل الصور الكريمة من النفوس المريضة وذبلت وضاعت ..
كرهت الوقوف فى بطن أو جانب العربات لهذا السبب ..
وفى أثناء وقوفى فى المحطة وحيرتى وحرصى على السفر .. اقترب منى شيال وقال لى :
ـ ادفع خمسة جنيهات وأجىء لك بتذكرة يا بيه ..
وقلت له لغرض المحاورة :
ـ يكفى الجنيه ..؟
ـ لا .. يا بيه .. هل تفكر أنى سآخذ الجنيهات الخمسة وحدى ..! وتركنى ومضى .. وأخذت طريقى إلى البسطة الخارجية للمحطة .. ووقفت هناك أنظر إلى السماء والنجوم ..
وسمعت من يقول .. بصوت حاد .. موصول :
ـ مصر .. مصر .. مصر ..
ومصر تعنى القاهرة .. عند أهل الصعيد وعند الدنيا كلها .. وقاهرة المعز هى مصر .. ومصر كلها بنيلها وأهراماتها وقباب مساجدها

وكنائسها .. وأنوارها وحصونها وقلاعها ..
مصر .. ونزلت من المحطة إلى حيث المنادى .. فوجدت عربة بيجو بيضاء .. اللون جديدة وزاهية .. وكانت فارغة من الركاب ، فركبت دون تردد أو سؤال فى المقعد الخـالى بجوار السائق .. وكنت أول راكب ..
وبعد ربع الساعة .. ركب ثلاثة فى المقعد الخلفى .. ولم أر وجوههم ولكنى سمعت صوتهم ولهجتهم ..
ثم جاء السائق بجلباب أخضر .. وكوفية من لونها .. ووجه طويل أسمر .. تطل منه عينان أخذتا الركاب الأربعة بنظرة سريعة فاحصة .. وبعدها تحرك على الفور ..
ولما خرجنا من حدود المدينة .. أشهر الركاب الثلاثة فى الخلف .. أسلحتهم ..
وجعلنى هذا أدير رأسى وأنظر إليهم .. الثلاثة فى عود واحد .. ولون نحاسى واحد .. وسن واحدة .. كأنما صبوا صبا فى قالب .. ثم خرجوا منه هكذا .. وكانت عيونهم تبرق فى سماء العربة .. التى اطفأت أنوار سقفها .. وملافحهم تدور على أعنـاقهم .. وتغطى عروقها النافرة .. وعلى وجوههم سكينة لم أشهدها من قبل فى وجه مسافر ولا عابر طريق .. والأسلحة مدافع رشاشة قصيرة جدا .. تطوى وتوضع فى

أى مكان يختار حاملها ..
وكان سائق العربة فى سنهم وشبابهم أيضا .. ولاحظت أنه بعد أن خرجنا من المدينة يسوق العربة بيد واحدة .. ولا يستعمل يده الثانية إلا عندما نتوقف أو ندور فوق الكبارى والأهوسة .. وكان يسير على نهج واحد وسرعة واحدة .. لايقيدهما قسط ..
وكان المطر قد انحسرولكن آثاره واضحة فى الطريق .. وترعة الابراهيمية على يميننا سـاكنة .. والجو كله عقب المطر .. قد هجع تماما ..
وبدأت الحركة المألوفة بين المسافرين .. فى عربة واحدة .. ومكان واحد .. حركة توزيع السجائر ..
أخرج راكب من الخلف علبته .. وقدم للسائق سيجارة ثم لى أنا ..
وقلت بصوت لا أعرف سبب رنة الخوف التى بدت فيه :
ـ شكرا .. اننى لا أدخن ..
ـ واصل .. ( يعنى أبدا ) ..
ـ واصل .. ( ما دخنت قط ) ..
ـ ربنا يرحمك ..
ثم واصل التوزيع لرفيقيـه بجواره .. وأصبح الدخان يملأ سقف العربة .. لأن النوافذ كانت مغلقة .. والنافذة التى بجوار السائق نصف

مفتوحة ..
وأثار الدخان أعصابى .. وأصبحت أفكر فيهم .. لماذا السلاح ..؟ وفى أيدى الثلاث ..!
ولماذا لا يفكرون أنى أحمل فى جيبى مالا .. وأنى راجع بعد تجارة أو صفقة .. وما أكثر التجارة والصفقات الرابحة فى هذه الأيام ..
ودار الهوس العقلى فى رأسى على هذه الصورة .. حتى غفلت عن السائق الذى بجوارى الذى يقود بأعصاب من حديد .. كما غفلت عن اسماء المدن التى نجتازها وبعدها دون توقف أو حتى تهدئة للسرعة ..
ثم سكنت نفسى وهدأت أعصابى التى أثارها الدخان ووترها .. وأخذت أردد أن الخوف يولد الخوف .. ولو أظهرت أمامهم أنى خائف منهم لطمعوا فى ّ .. بل ربمـا أكون قد أوحيت اليهم بما لم يفكروا فيه قط .. وما لم يخطر على بالهم أبدا ..
وهكذا رجعت إلىَّ نفسى المطمئنة وأخذت أتطلع من نافذة السيارة إلى المدن والحقول وهى تطوى وتطوى .. والسيارة تمضى فى الليل الأشهب ..
غاب القمر .. وتكسر نصف النجوم .. وراء السحاب ..
وتذكرت وأنا أنظر إلى الليل والنجوم .. قصة للعظيم همنجواى عندما وضع البطل فى حالة مثل حالتى ..

كان البطل نائما فى الدور العلوى من الحانة .. وصعد إليه عامل الحانة ليوقظه ويقول له :
ـ هناك جماعة تحت .. سألوا عن اسمك .. وعرفوا أنك هنا .. وجاءوا ليقتلوك ..!
ولم بغير هذا من وضع البطل الذى كان نائما .. ولم تحركه كلمات عامل الحانة .. وظل فى مكانه ينتظر قدره ..! كما ظل همنجواى العظيم فى مكانه من الدنيا إلى أن جاءه قدره وأنهى هو حياته بيديه ..
همنجواى الذى يكاد يكون هو الكاتب الوحيد من كتاب الدنيا الذى تطوع باختياره فى الحرب الأهلية الأسبانية ليلمس بأظافره ولحمه ودمه الحرب ومساوىء الحروب وويلاتها على الإنسانية ..
ولما أدرك عن وعى كامل أنه لا يستطيع أن يوقف حربا أو ينهى مجاعة تصيب بقوارعها العـالم .. خرج هو من هذا العالم .. بنفس راضية ..
كان همنجواى يدور فى رأسى عندما دارت العربة إلى جانب فى الطريق .. لتزود بالوقود .. ثم خرجنا منه وأصبح يقود بسرعة أكثر ..
ولمحت شبحا فى سواد .. لمحته من بعيد .. وكان على يمين الطريق .. ولما اقترب منه السائق هدأ من سرعة السيارة .. ثم توقف تماما عنده ..
وسمعت الشيخ يقول :

ـ خذنى معك يا طه .. لغاية ..
ـ حاضر اركب بجوار البيه ..
وركب .. وكان متلفعا كله .. ولكنه قبل أن يركب سدد إلى الثلاثة الذين فى الخلف نظرة قوية .. ثم ردها إلى شخصى ببسمة ود ..
ولاحظت بعد أن جلس بجوارى أن الجزء الملاصق لى من جسمه مقطوع الذراع ..! وأن رشاشه بيده اليمنى ، ولكنه لم يشهره كمن جلسوا فى الخلف ..
وقدم لى أنا وحدى سيجارة .. ولما عرف أنى لا أدخن .. طوى سيجارته .. وقال بابتسامة :
ـ لا داعى لمضايقتك ..
وأكبرت فيه هذه الفعلة وهذا الذوق السامى .. ومال بنا السائق بعد أربعة فراسخ من السير الجاد إلى مطعم فى زاوية من الطريق ..
وأكل الثلاثة فى الخلف لحوما وخضارا كثيرا ، وأكلت جبنا وبيضا وشربت القهوة ..
ودخل السائق فى جوف المطعم فلم أعرف ما أكله ..
وشرب الراكب الأخير الشاى وحده .. وكان على رأس الطريق .. والظلمة تخيم .. وريح الشتاء أخذت تدور وتتحرك بعد سكون ..
وجاء السائق يقول لى تفضل :

وركبت وحدى فى مكانى .. وسألته بعد أن تحرك :
ـ وباقى الركاب ..؟
ـ كانت التوصيلة إلى هنا فقط ..
وتحركنا .. والريح أخذت تعصف بشدة .. وأسلاك البرق فى شريط السكة الحديد .. كأنها تتحدث بلغة غير مفهومة .. وانطلق دوى الرصاص فجأة مع عويل الريح .. واستمر دقائق ثم انقطع فجأة .. وخيم سكون القبور .. حتى الريح كنت والأشجار سكنت ..
وبرز على سيف الطريق .. كما برز من قبل .. الرجل المقطوع الذراع .. وقال للسائق بهدوء ونفس الصوت كما قال من قبل :
ـ خذنى .. معك .. يا طه .. لغاية ..
وركب وحده من الخلف .. مكان الثلاثة .. لأنه لم يعد للثلاثة وجود ولا مكان فى هذه الحياة .. ولكنها على أى حال قصتهم ..

====================================
* نشرت قصة القصة فى مجلة القصة ـ العدد 44 ـ أبريل 1985
* ونشرت قصة " الأعسر " فى مجلة الثقافة ـ العدد 71 ـ اغسطس 1979 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من القرية " مكتبة مصر
====================================

ليست هناك تعليقات: