الثلاثاء، ٩ أكتوبر ٢٠٠٧

محمود يوسف ـ فمة الصفاء فى الإنسان

(9)
ذكريات مطوية
محمود يوسف قمة الصفاء فى الإنسان
بقلم محمود البدوى


كان محمود يوسف يحرر عمودا انسانيا فى موضع ثابت من جريدة المصرى اسمه " شموع تحترق " وفى هذا العمود كان يفيض من انسانيته ، وما فى قلبه من ينابيع الخير على القراء .. وكانت الرسائل التى ترد إليه باكية وحزينة ودامية .. وقد احترقت شموع أصحابها ، ويحاول محمود يوسف بكل مشاعره ونبض قلبه ، أن يمسح عن هذه القلوب الباكية أحزانها ، ويرد لهذه الشموع المحترقة نور الحياة ..

وعندما انتقل محررا بجريدة " الشعب " نقل معه هذا العمود بكل مافيه من نبض الحياة ..

وكان عبد الرحمن الشرقاوى يشرف على الصفحة الأدبية فى هذه الجريدة الجديدة " الشعب " فطلب منى قصة .. وكنت أكتب فى ذلك الوقت وأنشر قصصا بصفة منتظمة فى مجلات دار أخبار اليوم " الجيل " ومعى الكاتب القصصى سعد مكاوى .. ولكن لم أستطع رد طلب عبد الرحمن لمكانته الأدبية وموضعه من قلبى ..

وكان سـعد مكاوى قد انتقل بدوره وأصبح محررا فى جريدة الشعب أيضا .. وبدأ العدد الأول من الجريدة بنشر قصة له .. ونشرت أنا قصة مثلها فى العدد الثانى .. وهكذا أخذت أنشر فى الشعب ..

ووسع عبد الرحمن الشرقاوى من دائرة الكتاب فى الصفحة الأدبية ، فأخذ ينشر فيها عبد الحليم عبد الله .. وسعد حامد وغيرهما ..

وفى جريدة الشعب التقيت بمحمود يوسف لأول مرة وقربنى منه الصفاء الذى وجدته فى معدنه .. وكلما مرت الأيام ازددت منه ألفة وصحبة ..

ونشرت فى الجريدة قصة ، أصف فيها البطلة فى موقف من مواقفها " بأنثى الأسد " .. فأهاج ذلك القارئات والمصونات منهن على الأخص ، فوجدت عاصفة وأنا داخل فى الجريدة .. وتلقانى محمود يوسف ومحمود حنفى ( منفذ الصفحة ) بابتسامة متألقة .. وطيبا خاطرى .. كما وجدا الامتعاض على وجهى من ذلك الهياج الذى لا مبرر له ..

وعلمت أن محمود حنفى " المسئول " دافع عن الكلمة بحرارة .. وطلب من المعترضات أن يأتين بكلمة بديلة تعبر عنها فى مثل دقتها ، فعجزن .. فالساقطة والمنحرفة والشهوانية .. كل هذه الكلمات لها معنى آخر .. لا تعبر عنه الكلمة التى نحن بصددها وما لازمها من وصف فى القصة ..

وفى أثنـاء هذه العاصفـة دخلـت علينـا شـابة اوربيـة اسمها " فرجينيا " .. وكانت تبحث فى الجريدة عن محمـود يوسف .. فدلوها على مكتبه .. وجاءت مفترة الثغر متألقة .. وكانت فى الثانية والعشرين من عمرها جميلة ومنطلقة على عادة الغالبية من الأوربيات فى مثل هذه السن ، وهذا العصر ..

وجلست " فرجينيا " تضحك مع محمود يوسف .. وكانت قد قابلته قبل ذلك مرارا فى دار الكتب .. لأنها تعد دراسة عن بعض الأدباء المصريين ووجدت فى دار الكتب خير عون لها ..

وحدثها محمود يوسف عنى .. ولم أكن أنا فى قائمة من تعد عنهم بحثها .. فصرفتها عنى بلطف .. وبعد ذلك بيومين وجدتها فى مكتب محمود يوسف .. وكانت الليلة من ليالى القاهرة الحارة ، فخرجنا نحن الثلاثة لنتعشى عشاء خفيفا فى مطعم بشارع " الفى " وطلبت هى زجاجة من البيرة .. وحاولت بكل إغراء الأنثى أن تعطى محمود يوسف نصف كوب .. ولكنه رفض بإصرار .. فرفعت " فرجينيا " الكوب إلى فمها .. وهى مبتئسة .. وعاش محمود يوسف تقيا نقيا مذ عرفته ولم يضع قطرة من الخمر فى فمه ..

ولما كانت " فرجينيا " تستعين به فى بحثها الأدبى ، فإنها كانت تلاقيه يوميا .. ثم انقطعت عنه فجأة وسأل عنها فى البنسيون الذى تنزل فيه فلم يجدها .. فتصور أنها معى .. وسألنى عنها .. فقلت له أنى ماقابلتها إلا معه .. وهى لاتعرف لى محل سكن .. وربما نسيت اسمى .. فأخذ كلامى بين مصدق ومكذب .. ولكنه ظل معى صافى النفس ودودا .. مع أن الدلائل كانت تحدثه بأنى قابلتها وأكتم خبر مقابلتها عنه ..

وفجأة ظهرت " فرجينيا " فى جو القاهرة .. وبدت مكتئبة وصامتة على خلاف طبعها المرح .. واستطاعت السيدة التى تنزل عندها أن تعرف سر اختفائها وسبب اكتئابها .. فقد سافرت " فرجينيا " إلى مرسى مطروح برفقة شاب أحبته وقضت معه عشرة أيام هناك .. ثم رحل عنها الشاب إلى فرنسا ..

وانتقل محمود يوسف من دار الكتب إلى المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية .. انتقل فى أول تكوينه .. وكان هو وزكى غنيم .. من الأعمدة الثابتة الأركان التى قام عليها المجلس ، فهما يعرفان كل خصائصـه ومقومات تكوينه ، ويرجع إليهما فى دقائق الأمور ..

كما أن محمود يوسف كان ركنا هاما وحيويا وافر النشاط دائب العمل فى لجنة القصة بالمجلس .. وابتدأ فيها كسكرتير لها .. وكانت فى أيامه فى أوج نشاطها .. وأثرها فى المحيط الأدبى ملموسا ..من حيث الكتاب الأول لشباب الأدباء والجوائز التى تمنح لهم ..

وهو مع زملائه فى العمل مثالا حيا للطيبة ونقاء النفس وطيب العشرة ولا أذكر أنه كانت هناك جفوة بينه وبين زميل ..

وفى الجوائز التشجيعية كان صوته هو الذى يميل الميزان ..

ولا أذكر فى حياتى الطويلة معه أن أحدا استطاع أن يثيره ، أو يعكر مزاجه الصافى .. وكان يلاقى الناس بالابتسامة والمحبة النابعين من القلب ..

وعندما كان يرشح نفسه لعضوية جمعية الأدباء أو نادى القصة أو اتحاد الكتاب ، يفوز فوزا ساحقا .. والجميع يستغربون هذا الفوز مع أنه لم يتحرك لبذل جهد انتخابى ، بل يظل من بعيد متواريا فى الظل يرقب المعركة ، وهو واثق من الانتصار لأنه يجمع حوله كل هذه القلوب ، ويحتويها بانسانيته الصافية وجهده فى معاونة الناس ..

ولا أذكر أن أحـدا طلب منه خدمة ولم يقطع النفس فى سبيل انجازها ..

لقد أثرفى نفسه العمود الذى كان يكتبه فى جريدة المصرى واستغرق تفرغه لخدمة الناس كل كيانه . وما رأيت أحدا تدمع عيناه ، ويصيب قلبه الوجـع ، لبلوى تصيب إنسان لايعرفه ، ولا تربطه به صلة ، مثل الذى كنت أراه فى عينى وقلب محمود يوسف ، وهو يتوجع ويتألم لما يصيب الناس من بلوى ..

وكنت كثيرا ما أراه مكتئبا مفجوعا .. وفى عينيه الحزن .. ثم أعرف أن سبب ذلك تصوره أنه آلم شخصا دون قصد منه ..

وبالرجوع لحقيقة الأمر أعرف أن هذا التصور وهم خالص ..! وأنه مابدرت منه أذية ، ولا شبهها لذلك الشخص ..
نفس شفافة نقية عاشت فى جو لم تخلق له ..

وكان محمود يوسف وثيق الصلة بثروت أباظه وبينهما حب وصداقة اشتدتا مع الأيام .. وكان ثروت كثير الدعابة له أثناء عملنا فى اللجان .. ولا يرد محمود يوسف على هذه الدعابة إلا باحمرار وجهه .. وأحيانا يجأر بصوته الجهورى .. ونسمع كلاما يغرقنا فى طوفان من الضحك ..

وكان ثروت يعتمد عليه اعتمادا كليا فى نادى القصة واتحاد الكتاب لأمانته فى عمله واتقانه له ..

وفى دار الكتب كنا نقرأ .. الأغانى .. وعيون الأخبار .. وتاج العروس .. وصبح الأعشى .. والمفضليات وأخبار النساء .. والعقد الفريد .. والبيان والتبيين .. والحيوان .. وأمالى القالى .. وأدب الدنيا والدين .. ومروج الذهب .. ومعجم الذهب .. ومعجم الأدباء .. وغير هذا .. وغير هذا ..

والعرب بعد زحفهم فى الأمصار واختلاطهم بالروم والفرس لم يتركوا شيئا لم يدونوه فى كتبهم .. فقد كتبوا عن الفلك والنجوم والنبات والحيوان .. كمـا كتبوا فى الطب وعلم النفس وعلم الاجتماع .. وبدأ عصر التدوين الذهبى فى القرن الأول الهجرى .. ثم انسالت المعارف والعلوم كالبحر الزاخر فى كل فنون الحياة ..

وكان محمود يوسف يقول لى قد تعجب إن علمت أن أدق الخلجات النفسية والحسية ، فى العلاقة التى بين الرجل والمرأة دونها العرب فى كتبهم بدقة وعلم يجلان عن الوصف ..
وفى كلامه الصواب كله فلا جديد تحت الشمس ..

ومن هذه الذخيرة وهذا النبع المتدفق كان محمود يوسف يكتب " قال الفيلسوف " ..

وكان البرنامج فى الإذاعة جميلا .. وأخاذا وبليغ التعبير وحسن الصياغة .. وطيب الوقـع فى نفس كل مستمع مهما كانت درجة ثقافته ..

وقد استغرقت الإذاعة محمود يوسف فى أيامه الأخيرة فصرفته عن طبع وإعادة طبع الكثير من مؤلفاته ..

فلعل المجلس الذى عمل فيه وأفنى عصارة حياته .. لعله يتولى طبع هذه الكتب ..

كما أن من واجب الدولة التى خدمها باخلاص وأمانة أن ترعى السيدة أرملته .. وتوفر لها معاشا استثنائيا يليق بأرملة كاتب كبير وإنسان .. عاش حياته يخدم المستضعفين من الناس ..

شغل محمود يوسف فى أيامه الأخيرة بعلاج عينه التى ضعفت من كثرة القراءة والبحث فى المراجع ، وحددت له عملية جراحية فى عينيه يوم 12/1/1981

ولكن القضاء سبقه بعملية أخرى أراحته من كل العمليات التى يقوم بها البشر ..

=================================
نشرت فى مجلة الثقافة ـ السنة الثامنة ـ العدد 89 ـ فبراير 1981 وأعيد نشرها فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006

=================================

ليست هناك تعليقات: