الثلاثاء، ٩ أكتوبر ٢٠٠٧

ذكريات مطوية

(12)
ذكريات مطوية
بقلم محمود البدوى


وقع فى يدى كتاب عن حياة دستويفسكى بمناسبة مرور مائة سنة على وفاته .. فقد توفى فى عام 1881 ..

والكتاب دورة نفسية عن حياة هذا الكاتب العظيم وارتباطها الوثيق بمؤلفاته ..

فمن قرأ المؤلفات ، قرأ حياة هذا الأديب الفذ .. دون الرجوع إلى أى مصدر آخر من مصادر المعرفة والتقصى ..

ومن العجيب أنه مع عزوف دستويفسكى عن كتابة الرسائل لانطوائه وفرديته .. فإن هذا الكتاب زاخر برسائل دستويفسكى الملتهبة إلى أخيه وزوجته وأصدقائه .. ثم إلى الامبراطور نفسه ، يلتمس منه العودة إلى " بطرسبرج " بعد نفيه ليعالج من مرضه كما يلتمس منه الأمر بوضع ابن زوجته " بول " فى كلية بطرسبرج على حساب الدولة ، وساءلت نفسى بعد قراءة الكتاب .. هل يستطيع كاتب عربى أن يكتب عن حياة مؤلف يعرفه بهذه الدقة والافاضة والصراحة ..؟

ولقد فقدنا منذ أشهر قليلة .. فوزى العنتيل ثم صـلاح عبد الصبور ..

فهل يستطيع أمين ريان أن يتناول حياة فوزى العنتيل فى كتاب .. وأمين ريان صديقه وألصق الناس به عن قرب ..

وهل يستطيع فتحى الابيارى الصديق الأوحد لصلاح عبـد الصبور .. أن يكتب عن هذا الشاعر الفنان بصدق واخلاص .. ويستوفى على الغاية من دقة البحث والسرد ..

هل يستطيع هذان الأديبان فعل ذلك ..؟! أم أن فى حياة الأديب الشرقى من الغموض طبقا لطبيعة المجتمع ، ما لا يمكن الافصاح عنه والغوص فيه ..

ولقد جاءت كاتبة أجنبية انبهرت بما كتبه أستاذنا يحيى حقى أثناء عمله فى منفلوط .. وأرادت أن تزور الموقع والمكان .. وتلتمس أنفاس الحياة فى منفلوط .. وترى وجوه الناس وتعرف كنههم ومشاعرهم .. فوقعت بزيارتها فى تخبط عجيب .. وعدم فهم لعمق الحياة المصرية .. وأخذت بالظواهر فى نظرة سريعة خاطفة .. كأنها عدسة كاميرا ..

ومن سوء الفهم أنها وصفت أسرة مصرية نزلت ضيفة عليها بالتخلف .. مع أنى كنت جارا لإنسان فاضل وكريم من هذه الأسرة فى شارع محمد رمزى بمصر الجديدة .. كنت جارا له لمدة عشر سنوات متصلة .. وكان هذا الجار مثالا للمروءة الصعيدية والكرم القبطى الأصيل ..

وكان الأخ الأكبر الذى وصفت السيدة الإنجليزية بيته فى منفلوط بالبخل والتخلف وما يشبه الفقر يجىء إلى زيارة أخيه فى مصر الجديدة فى عربة شفروليه فى وقت لم تكن فيه عربة واحدة فى الحى كله ..

***

وكثير من الأجانب الذين كتبوا عن حياة بعض رجال السياسة عندنا وقعوا فى هذا التخبط ، وأصبحت كتابتهم مضحكة .. فهم لا يفهمون عمق الحياة المصرية .. ولا يمكن أن يصلوا إلى جذورها ..

وتصبح كتبهم أشبه بالكتب التى تصدرها مكاتب الاستعلامات فى العالم .. مجرد دعاية رخيصة ليس فيها حقيقة واحدة ..

***

عندما فكر الناقد الفنان محمد قطب مع بعض من زملائه فى نادى القصة فى إخراج عدد من المجلة من مؤلفاتى .. توقف الصديق محمد قطب عند قصة القطار الأزرق طويلا ـ وكانت القصة قد نشرت فى العدد الأول من مجلة الثقافة ـ وربط محمد قطب بدهاء وبصيرة بينها وبين قصة الغجرى فى كتاب " الظرف المغلق " وكل واحدة منهما تكمل الأخرى وهما عن شخص واحد وبطل واحد ..

وأراد محمد قطب أن يجعل من القصتين صورة من حياتى .. ولقد ضحكت وسررت جدا لأن القصة أصبحت من الصدق والواقعية إلى الحد الذى يتصور كل من قرأها أنها حدثت فعلاً .. وهذا منتهى التوفيق للكاتب .. ومنتهى الإجادة الفنية ..

ونفس المشاعر أجدها عند الناقد المتخصص علاء الدين الوحيد .. وهذا الصديق يبذل جهدا صادقا فى البحث عن كتبى والكتابة عنها .. ولكنه يقف عند وقفة واحدة ويلف ويدور .. المرأة .. ويتصور أن كل امرأة فى القصة ، وكل أنثى هى واحدة ممن عرفت وعاشرت ..

وهذا التصور مرجعه بالطبع إلى الصدق فى التعبير .. وأنا لا أكتب من فراغ .. ولكن لو كنت أعرف كل هؤلاء النسوة .. فكيف أكتب ومتى أكتب ..؟

إن الأديب الحق يشعر دومًا بالحرمان ، ولو عاشر .. وعاش مع نساء هذا الكوكب .. ومن الحرمان ومن منبع الحرمان يكتب الأديب .. ولو ارتوى ما كتب قط .. لو ارتوى ما كتب سطرا واحدًا ..
تلك هى الحقيقة ..
=====================================
نشرت فى مجلة الثقافة ـ العدد 101 ـ فبراير 1982 وأعيد نشرها فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2006

=====================================



ليست هناك تعليقات: