الثلاثاء، ٩ أكتوبر ٢٠٠٧

القلق النفسى والإبداع

(11)
ذكريات مطوية
القلق النفسى والابداع
بقلم محمود البدوى


كان الممثل الألمانى أهيل جاننز .. يعيش فى دوره إلى درجة أذهلت العالم .. كان يتقمص الشخصية التى سيمثلها ويعيش فيها بكليته وجزئيته .. فى غدواتهـا وروحاتها وفى أكلها وشربها وفى نومها وصحوها .. وفى درجة صوتها فى النطق وأسلوبها فى التعبير .. وطريقة معاملاتها مع النـاس .. وفى كل حركـة تصدرها فى البيت وخارج البيت ..

وقد رأيت هذا الممثل يمثل دور سائق قطار بعد عذاب الأسر فى الحرب .. وقد انخلع عقله وحسه تماما من تعذيب الأسر .. ومع ذلك أجبروه على أن يسوق القطار .. لأن هذه كانت مهنته فى موطنه ..

وانقطع هذا الممثل الجبار الذى لم يأت قبله ولا بعده ممثل فى مثل عظمته .. انقطع عن التمثيل عندما خرجت السينما الناطقة .. وصرخت بصوتها .. انقطع لأن صوته لايتلاءم معهـا ، ويقلل من عظمته فى الأداء ..

وجاء بعده " جارى كوبر " وقد صمد هذا للسينما الناطقة وكان مذهلا ورائعا فى أدائه ولا تتصور قط وأنت تشاهده أنه يمثل .. وعندما طواه الردى ، رثاه وقيمه رئيس دولته " جون كنيدى " بكلمة بليغة نشرت فى مجلة أمريكية ، كلمة لم يكتب مثلها أديب .. أبرز فيها كل خصائص هذا الممثل كعبقرى عديم النظير ..

ويعيش الآن " مارلون براندو " فى القمة من هذه العبقرية بعد تمثيله فى " الأب الروحى " ..

وعندنا ممثلون كبار جدا ولايقلون عن هؤلاء فى الاتقان والتفوق ودرجة العبقرية .. وعلى رأسهم " محمود المليجى " ولكن الكثير من القصص التى يمثلون فيها تطمس عبقريتهم .. لحشوها بالافتعال والتفاهة وخطب الوعظ ..

وتظل الصورة الكئيبة عالقة بذهن المشـاهد أكثر من الصورة الجميلة ..

وما يحدث للممثل عندما يتقمص شخصية بطل الرواية .. أو أية شخصية ثانوية فيها .. يحدث للكاتب نفسه وهو يخلق هذه الشخصية ..

وأقول هذا لما يعانيه الكاتب من المشقة والتفرد والاستغراق .. وهو يخلق أبطال روايته .. فهو يعيش معهم ويسايرهم فى حياتهم .. كما يسايرونه ويستغرقون كل طاقته ..

وبعض القصص تجعلنى أعيش فى ذهول تام وغفلة عن كل ما حولى ، لصراعى مع هذه الشخصيات وخشيتى ألا تكون مطابقة للواقع الذى أعيش فيه وأكتب له ..

ومن العجب أننى عندما أتحرك فى شوارع القاهرة وأنا على هذه الحالة من الذهول أجد من يستوقفنى ويسألنى عن إسم شـارع أو متجر أو شركة هندسية ..

وأقول فى نفسى .. لماذا هذه الغباوة .. ألا تلاحظ ذهولى وتسأل غيرى أحسن لك ..؟ وبعضهم سألنى ذات مرة عن " باب البحر " فأشرت إليه وأنا مغتاظ إلى ناحية " روض الفرج " لأنه لا يوجد بحر إلا هناك ..! وأهل القاهرة يسمون النيل البحر ..

ومن العجب أننى كنت أسير فى " باب البحر " نفسه ولا أعرفه ..

ويكثر السؤال من النساء .. وهذا معقول لأنهن يتخيرن كبار السن دفعا عن الشبهة وعن عيون المارة المراقبة فى فضول ..

وسألتنى واحدة منهن عن سوق الخضار الذى فى العتبة .. وكنت فى ميدان الأوبرا ، فاضطررت أن أتحمل العذاب وأسير معها إلى السوق نفسه .. لأنها كانت ريفية جميـلة ومن السهل أن تقع فى يد قناص من أشرار الشوارع .. والقـلق وصراع النفس همـا اللذان يحركان الأديب ويدفعـانه إلى الابداع ..

والقلق هو الذى دفـع " جاك لندن " إلى الابداع .. فالطفولة البـائسة والتشرد وركوب البحار .. خلقت كل هذه الأعمال العظيمة ..

وعندما اغتنى وأصبح يعيش من ريع أملاكه فى " كاليفورنيا " وبنى له قصرا .. وكف عن التجوال وركوب البحار كف عن الكتابة ..

وكذلك الحال مع العبقرى " الفرد ادجار الن بو " .. فالقلق والمرض وطابع الكآبة .. جعلته يعيش فى دوامة من الصراع مع هذه الحياة .. ويصور بطريقة فذة كل ما فيها من غرائب ..

وكان يحب المرأة ومسرفا معها فى العذوبة .. ومع أن أمه " كانت ممثلة " هربت مع والده قبل الزواج وتزوجها بعد ذلك .. ولكنه لم يكتب سطرا واحدا يخدش حياة امرأة ..!

ولكن القلق .. قضى على " اسكار وايلد " والسجن قبره إلى الأبد .. لأنه عبقرى مرهف الحس .. وكان يعيش قبل السجن فى نعيم مقيم .. فلما سجن أحس بضآلة الحياة وضآلة من يكتب لهم .. وانتهى تماما ..

والقلق والسجن لم يقضيا على " العقاد " بل بدأت عبقرياته مع القلق .. عندما شرع فى كتابتها وهو فى السودان .. وكان فى قلق من وقوعه فى قبضة الألمان .. وكانوا قد دخلوا " العلمين " وأصبحوا على مشارف الإسكندرية ..

وبدأ " محمود تيمور " حياته الأدبية من " درب سعادة " ..

وكان المازنى مبالغا فى وصف حالة أسرته بعد وفاة أبيه .. ولكن قلقه كان نابعا من فيض نفسه وليس من عسر مادى ..

فقد عمل فى أول عهده بالوظيفة بعد تخرجه مدرسا .. وأجر المدرس كان طيبا ومع مستوى المعيشة فى ذلك الوقت من الزمان .. ثم صحفيا من كبار رجال الصحافة وأعلامها البارزين وما تقاضاه من راتب كان يغنيه بالطبع عن كل عسر مادى .. ولكن قلقه كما قلت كان نفسيا ..

وشوقى أعظم شعراء العرب بعد المتنبى .. فتح عينيه وهو فى المهد على الذهب يلمع ويترجرج أمامه ..

وظل يعيش فى نعيم ومع ذلك أبدع وحلق ..

ومرت سنوات النفى فطواها فى يسر .. وعـاد يتمرغ فى النعيـم كما كان .. فمن أين جاءه كل هذا الالهام المغرد فى وادى عبقر .. هل هو شىء نشز وخرج عن حلقة الابداع .. أم هو شىء ساد مع فطرة العبقرية ولكننا لا نعرفه .. لأننا لم نكن على قرب منه ..
=====================================
نشرت فى مجــلة الثقـافة ـ العــدد 96 ـ سبتــمبر 1981 وأعيد نشرها فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2006

=====================================

ليست هناك تعليقات: