الأحد، ٧ أكتوبر ٢٠٠٧

هذا الحوار لن يقرأه صاحبه ـ أجرى الحوار الدكتور مصطفى عبد الغنى

هذا الحوار لن يقرأه صاحبه
محمود البدوى يقول قبل رحيله


* القرآن الكريم أول من عرف القصة القصيرة
* يجب أن يكون اخلاصنا للفن وليس للايديولجيات السياسية



أجرى الحوار الصحفى والكاتب : الدكتور مصطفى عبد الغنى
عنـــوان الدوريـــة : الأهرام
تاريخ النشــــــر : 20 فبراير 1986

لن يقرأ كاتبنا الراحل محمود البدوى هذا الحوار .. فقد رحل الرجل فى هدوء كما عاش حياته .. وإذا كانت الأضواء قد غابت عن الرجل فى حياته وربما بعد مماته ، فإن قيمته ودوره سيظلان أكبر من كل الأضواء ..
رحل عنا أخيرا رائد القصة القصيرة ، وواحد من فرسانها الأوائل .. فماذا قال قبل رحيله ..
* لماذا ظلت " القصة القصيرة " حبك الأول ..؟
ـ القصة القصيرة حبى الأول والأخير أيضا ، لقد أخلصت للقصة القصيرة قرابة نصف قرن من الزمان منذ أن نشرت أول مجموعة قصصية فى بداية الثلاثينات حتى أننى أستطيع القول دون ما مبالغة أننى طورت شكل القصة ودلالتها لأول مرة فى اللغة العربية فى العصر الحديث .. لقد نجحت فى حشد شخصيات بشرية متباينة ومعذبة معا ..
غير أن حبى للقصة القصيرة وراءه باعث رئيسى ، هو ولعى بالإيجاز والاختزال اللذين أجدهما فى طبيعة القصة القصيرة ، ويحضرنى هنا أسماء كثير من الباحثين الغربيين الذين شهدوا للقصة العربية فى قرونها الهجرية ـ الإسلامية ـ بالرقى ، لا لشىء إلا لأنها تحتوى من البلاغة التى هى التركيز والتكثيف الشىء الكثير .. إنهم يؤكدون أن القصة القصيرة إنما هى فن العرب لا الغرب ، فالعرب بطبيعتهم رحالون من مكان إلى آخر ، وبين هذا المكان وذاك يرددون حكاياتهم الموجزة ، فالحياة العربية ، لطبيعتها البدوية ، لم تكن تمكنهم من سرد القصة الطويلة أو التمهل عند تفصيلاتها ، ومن هنا ، أستطيع القول إن تعريف القصة القصيرة العربية عند العرب كما هى الآن لا تزيد على ربع ساعة فقط ..
وهذا الوقت الوجيز هو الذى يمنح القصة حلاوتها المميزة .. وهو ما جعلنى أعود للأدب العربى وأحاول أن أغترف من المنابع الأولى للفن القصصى .. وبالتحديد من القرآن الكريم ..
لنتوقف قليلا عند هذه النقطة لأهميتها .. انظر إلى عظمة الإيجاز القرآنى وهو يقول :
" ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم "
إنها عبارة بليغة تعبر عن نفسها بنفسها ، وتحمل معانى كثيرة قل أن يستطيع التعبير الطويل أن يعبر عنها ، اقرأ هذا الحكم " إلا أن يسجن أو عذاب أليم "
ثم أنظر إلى مثل آخر : " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين " انظر إلى دلالة المعنى الذى تطلقه امرأة ، ومع هذا ، فإن الرسالة تصل بشكل فيه بلاغة وصدق ويحوطه التقدير والإجلال .
إننى أستطيع الخروج من كل آية بقصة قصيرة يمكن أن تتوافر فيها شرط ( لحظة التنوير ) كما يقال لنا الآن فى التعبير عن القصة القصيرة .. إن القرآن الكريم به أول قصة قصيرة ..
وعلى هذا النحو ، فإننى أستطيع بلفظ أو أكثر من لفظ ( منحوت ) الوصول إلى أدق المعانى وأكثرها تعبيرا ودلالة ..
غير أننى لا يمكن أن أغبن الغربيين حقهم فى الفن الإبداعى للقصة القصيرة ، فإننى لا يمكن قط أن أنسى براعة " تشيكوف " وهو يروى القصة فتصل إلى درجة بعيدة من الإعجاز ، لا لشىء ، إلا لأنها تحتوى على التركيز والمعنى فى جلسة صغيرة ..
وهكذا أستطيع القول أن القصة القصيرة التى كتبتها على ايجازها كان يمكن أن أكتبها فى ثلاثة فصول بدلا من عدة صفحات ، فبدلا من أن أسترسل فى محاسن المرأة ، على سبيل المثال ، فأسهب فى شعرها وقدها وهيأتها إلى غير ذلك ، أستطيع أن أرمى السهم مباشرة فأقول أنها " جميلة " وهو ما أستطيع أن أقوله حين أسهب فى تفاصيل الجو فأختصر بأنه " بارد " وحسب .. وأستطيع ببقية تفصيلات القصة أن أمزج قدرا كبيرا من الدلالة التى تشير إلى الجو وتؤكد درجته ..
* ولماذا لم تكتب غير القصة القصيرة ..؟
ـ تقصد الرواية والمسرح .. أعترف بأننى لم أحاول هذا قط ، فكل أحلامى كانت تتركز حول أن أوجز فكرى فى فترة زمنية قصيرة ، وهذا هو حال القصة القصيرة ..
ربما يستوجب بعد هذا أن أعترف بشيئين آخرين فى منتهى الأهمية بالنسبة لهذا الجنس الأدبى المحبب الأثير لدى ..
أولا : أن " نفسى " ليس طويلا حتى أخرج عن نطاق القصة القصيرة .. التى تحتاج إلى فكرة كالبرق لامعة أستطيع أن أضمنها نسيج الحرف والكلمة ..
وثانيا : القصة القصيرة من السهل نشرها ، وأنا ، كما سترى ، أجهل الطرق الملتوية ـ وما أكثرها ـ لتحمل قصة طويلة وتحاول أن تنشرها ، فتلاقى صعوبة ما بعدها صعوبة ..
ومع هذا ، دعنى أعترف لك اعترافا أخيرا ، اعترافا بديهيا لم يستطع السينمائيون عندنا ، للأسف الشديد ، أن يفهموه .. وهو أن أية قصة قصيرة لى يمكن أن تتحول إلى فيلم سينمائى أكثر من أية قصة قصيرة لكاتب آخر .. لماذا ..؟ أجيب لك .. لأنها تحتوى على اختزال واختزان ( للقيمة ) الفنية ، وتبعد عن التفصيلات والجزئيات الخارجة عن نطاق هذا الفن ..
* كيف ترى العلاقة بين القصة والسياسة ..؟
ـ هى علاقة وثيقة بلا ريب .. اننى أكتب السياسة شئت أم أبيت ..
وأستطيع القول إن الأديب والمثقف بالتبعية ، لا يجب أن ينتمى لحزب ما قط ، وإذا قدر له أن ينتمى ، فيجب أن يجعل جدارًا سميكا بين إبداعه الحر ونشرات حزبه السياسى ، وألا يجب أن تتدخل السياسة فى الإبداع فتوجهه وجهة رسمية وإلا أصبح ما يكتب فى حكم ( الدعاية ) ، وعلى سبيل المثال ، لقد عشت فترة موسولينى ، وتابعت الكتابات التى أيدته أو عارضته أو حتى من وقفت موقفا محايدا ، الآن أستطيع أن أقول لك .. إن جميع من كتب عن موسولينى أوله سقط ، إن شبح الزعيم السياسى يحرق معه كل مؤيديه .. الأديب لابد أن يدافع عن فكرة ، لكن الدفاع عن فكرة إنسانية شىء والدفاع عن إيديولوجية حزبية ـ مهما كانت ـ شىء آخر ..
يجب أن يكون إخلاصنا للفن أولا .. فلنترك موسولينى ولنتحدث عن أديب يحاول أن يكتب ضمن شخصياته عن شخصية اليهودى ، إننا إذا حاولنا إبراز هذا اليهودى بشكل منفر ، يمكن أن يحدث أثرا معاكسا فى القارئ فيفعل العكس ..
وهنا ، فيجب أن أفرق دائما بين كتابة الأدب الهادف وكتابة الدعاية الموجهة .


ليست هناك تعليقات: