الاثنين، ٨ أكتوبر ٢٠٠٧

قصة الرنين وحكايتها

الرنين

رن جرس التليفون فى حجرتى بالفندق فى منتصف الليل .. ولم أكن أعرف أحدا فى موسكو .. ولا صلة لى بانسان .. ولذلك تركته يرن .. وبقيت فى الفراش تحت الأغطية الثقيلة ..

وكنا فى صميم الشتاء والثلج يتساقط ، والبرودة تصل إلى 25 درجة تحت الصفر ..
ولما طال الرنين تحركت من مكانى ورفعت السماعة ، فوجدت سيدة على الخط وكانت تتكلم الإنجليزية بلكنة أجنبية واضحة ..
وقلت :
ـ هالو ..
ـ هالو ..
ـ أى خدمة ..
ـ أى خدمة ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ أيقظتينى من النوم يا سيدتى ..
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ ماذا تريدين ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى مثل هذه الساعة من الليل ..؟

وهكذا ظلت تردد ورائى كل ما أقوله بلهجة مضحكة ، كانت تنطق الكلمة الإنجليزية خليطا بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية ..

ومع أنها سحبتنى من الفراش وأطارت النوم من عينى ، ولكن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل الساكن وفى هذه الوحدة أشعرنى بالراحة ، فأنا وحيد فى هذه المدينة الكبيرة ، وحيد فى الفندق .. من غير أنيس ولا رفيق .. وقد قضيت أسبوعين على هذه الحالة القاسية ..

ولهذا فإن مجرد سماعى لصوت أنثى فى الليل هز مشاعرى ..

كنت أعيش فى حالة كآبة فى داخل الفندق ، ولا أستطيع التجول فى المدينة لشدة البرد القاتل ، وسقوط الثلج ، فإنه من الصعب على شخص لم يتعود على مثل هذه الحياة أن يتجول ..

كانت درجة البرودة تصل إلى 30 درجة تحت الصفر فى بعض الأيام ولا تقل عن 20 درجة فى معظم الأيام ، ولهذا حبست نفسى فى الفندق ..

ولم أكن أخرج إلا نادرا فى مشوار سريع إلى المكتبة العامة ، وأعود منه مغطى كلية بنتف الثلج ..

وفى الليلة التالية ، وفى نفس الساعة عاد الرنين ، تركت الجرس يرن طويلا ثم تناولت السماعة ، وسمعت نفس الصوت يردد ورائى ما أقوله بالحرف الواحد ..

وقلت فى صوت جاف :
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ يا سيدتى .. أنا رجل وحيد وبائس .. ولا شأن لى بالنساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ ولا أحب النساء ..
ـ شىء عجيب ..
ـ شىء عجيب ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..؟
ـ أريد أن أنام ..
ـ أريد أن أنام ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..
ـ سأبلغ إدارة الفندق ..

ووضعت السماعة وأنا فى أشد حالات الغيظ .. واستمر الحال على هذا المنوال عشرة أيام متصلة ، ومن العجب اننى كنت أضبط الساعة على رنينها .. فى منتصف الليل بالضبط .. وعندما تتلاقى العقارب الثلاثة كنت أسمع الرنين ..

ومن العجب أننى بعد هذه الأيام العشرة .. أصبحت أحن إلى سماع هذا الصوت ، وأخشى أن ينقطع الرنين .. والإنسان عبد لما تعود عليه .. ويعشق المجهول .. ولقد عشقت صوتها .. كان صوت هذه السيدة جميلا منغما كأنه كروان يغنى على الخط ، كروان يغنى بأعذب الألحان ..

وأصبحت أتصورها من صوتها شابة بين العشرين والخامسة والعشرين .. رشيقة القوام .. شقراء الشعر دعجاء العينين .. صبوحة الوجه .. ولها على الخد الأيسر شامة بحجم العدسة .. وأسنانها بيضاء تفتر عن ثغر جميل خلق للقبل ..
وتظل هذه الصورة فى رأسى مجسمة حية تتحرك ..

***

وفى الصباح وأنا فى طريقى لتناول طعام الافطار فى نفس الطابق الذى فيه حجرتى ..كنت أنظر إلى الأبواب المفتوحة فى الغرف المجاورة لغرفتى .. وألاحظ النساء على الأخص .. الرائحات والغاديات فى الطرقة .. وأسمع الأصوات ، وأحدق فى الوجوه .. لعلى أهتدى إليها ..

***

كان بالغرفة التى على يمين غرفتى ثلاث مضيفات فى شركة الطيران اليابانية .. وكن فى سن متقاربة لا يتجاوزن العشرين .. أنيقات فى زيهن الأزرق وقبعاتهن الصغيرة الزاهية .. وكان نطقهن للإنجليزية بارعا كأنهن إنجليزيات ، فاستبعدتهن تماما من الصورة ..

ثم شقراء بين بين الألمانية والبولندية .. وكانت تقيم وحدها فى الغرفة التى تلى غرفة اليابانيات .. وكانت جامدة الملامح رصينة ، وما أحسب أنها تفكر فى مثل هذا العبث فاستبعدتها أيضا ..

وسيدة هندية خمرية اللون ، طويلة الشعر ، تلبس السارى الهندى ، ومعها زوجها يرافقها ويلازمها ملازمة الظل .. وبعد مشقة سمعت صوتها ونطقها بالإنجليزية فاستبعدتها على التو ..

ثم سيدة روسية نصف .. يعنى فى منتصف العمر .. تشغل الغرفة الرابعة فى نفس الصف ولعلها رسامة جاءت إلى العاصمة فى مهمة عمل .. وهى تتحرك فى ملابس الروسيات الثقيلة ، ومستعدة للثلج وعواصف الشتاء ، وتراها دائما فى معطفها المبطنة بالفرو ووشاحها الصوفى وقبعتها الزرقاء .. تراها دائما فى هذا الزى الكامل فى " الكافتيريا " وفى البهو .. وفى قاعات الاستقبال .. وكانت صارمة الملامح عادة .. ولعلها مهندسة معمار ..

ولم أسمعها تنطق قط بغير اللغة الروسية فاستبعدتها على الفور ..

ثم سيدة عجوز وزوجها الكهل .. ومعهما ابنة شابة ومن حوارهم بالإنجليزية عرفت أنهم من الأمريكان فاستبعدت العجوز وابنتها لنطقهن ..

ثم شابة رأيتها فى الطرقة تتحرك على كرسى بعجل .. وتدفعها أمها .. ولم أسمعها تنطق .. وكانت تقيم هى وأمها فى الحجرة المواجهة لحجرتى .. وكانت الفتاة ضاحكة السن وتحدق بضراوة فى كل الوجوه التى تمر أمامها فى الطرقة بعينين نجلاوين متطلعتين ..

ثم سيدة جديدة فى مقتبل العمر ، رأيتها لأول مرة تضع المفتاح فى الباب المجاور لباب الفتاة الكسيحة .. ولم أسمعها تنطق بأية لغة وكانت صامتة وقلقة ويبدو على وجهها الأسى ..

واستبعدت النزلاء من الرجال الكبار والصغار فى الطابق الذى أقيم فيه وفى كل الطوابق .. فإن أصوات الرجال واضحة فى سمعى ومن السهل تمييزها مهما حاولوا تقليد النساء ..

وهكذا بقيت فى هذا الفندق الضخم أسمع الرنين ولا أهتدى لصاحبته .. وأنتظر " أولجا " لتأخذنى إلى بيت " دستويفسكى " لنطلع على المخطوطات ..

ولكن " أولجا " حبستها الثلوج فى " تفليس " وبقيت فى الفندق أسمع الرنين ..

وبعد تفكير طويل ، وبعد النظر فى كل الوجوه ، حصرت العابثة فى فتاة من عاملات الفندق .. وهى التى تعرف رقم التليفون فى غرفتى وتسلى نفسها فى الليل الطويل بهذا العبث ..

***

وفى قاعة البريد الملحقة بالفندق .. جلست أكتب رسالة " لأولجا " أعرفها بموقفى وحبسى فى الفندق وأغفر لها تأخيرها .. وعدم استطاعتها الحضور .. لأنى أعرف مقدار ما سقط من الثلوج فى قريتها .. وقلت لها بأنى مضطر للعودة إلى موطنى بعد الثامن عشر من يناير .. إن لم تستطع هى الحضور قبل ذلك .. وأعدها بأن أحضر مرة أخرى فى بشائر الصيف ..

وقبل أن أضع الرسالة فى المظروف .. وجدت عينين تحدقان فى وجهى من الكرسى المقابل على نفس المائدة ..

كانت سيدة طويلة نحيفة القوام سوداء الشعر جميلة ناعمة البشرة .. ناعمة البسمة .. وكل ما فيها ناعم رقيق ..
ولكن الوجه بكل ما فيه من جمال وتألق كان قلقا ..

والقلق هو الذى جعلها تحدق فى وجهى لأنها قرأت فيه القلق الذى فى نفسها ..

وتبادلنا بالإنجليزية كلمات قليلة عن الرسائل وطوابع البريد ومتى تفرغ صناديق البريد التى فى داخل الفندق ..

ودون أن توضح لى حالها تماما أدركت أنها تنتظر رجلا .. وأنا انتظر " أولجا " ..

والرجل حبيبها ولكن " أولجا " لم تكن حبيبتى .. أولجا مشرفة على بحث أدبى يشغل وقتى وحياتى ..

***

وأصبحنا نتقابل عرضا دون اتفاق سابق فى المطعم ، وفى ردهات الفندق وفى الصالة الكبيرة وأمام أبواب المصاعد .. وحدثتنى أنها كانت فى الطابق الثالث فلما خلت غرفة فى الطابق التاسع انتقلت إليها .. لأنها تود أن تمتع نفسها بالتطلع إلى المدينة من هذا الارتفاع الشاهق وترى الثلج المتساقط وهو يغطى الشوارع والميادين ويتراكم على أسلاك التليفون والبرق .. وترى العصافير وسط هذا الجوالثلجى وهى تحط آمنة على أغصان الشجر ..

وترى العاملات فى الليل يجرفن الثلوج تحت أنوار المصابيح التى غشاها الثلج فغدت تعكس كل الأضواء التى فى قوس قزح ..

واعتادت أن تستيقظ مبكرة .. كما أفعل .. فنذهب معا إلى " الكافتريا " لتناول طعام الافطار قبل أن يزدحم المكان بالنزلاء .. ونجلس إلى مائدة لا نغيرها ولم يكن بيننا بعد أسبوع من اللقاء المتصل ما يسمى بالحب أو حتى بالصداقة .. وانما كان مجرد ألفة أو لقاء بين غريبين أحسا معا بالأمان فى هذا اللقاء .. وقتل السأم فى محبس الفندق ..

وكان القلق قد أخذ يتبدد تماما .. سواء أقدم الرجل الذى تنتظره أم تخلف .. فإنها قد زارت موسكو كما تزورها كل عام .. وشبعت منها وفى هذا الكفاية ..

وكان الحال كذلك بالنسبة لشخصى فسواء أجاءت " أولجا " أم تخلفت فإنى قد اطلعت فى المكتبة على مافيه الكفاية .. وتكفى زيارة واحدة فى الصيف لانهاء البحث جميعه ..

وفى صباح يوم رأيت الشمس فيه طالعة .. قلت لها :
ـ الشمس اليوم تغرى بالخروج .. فهل ترافقينى إلى " الجوم " ..
ـ بكل سرور .. فى أى ساعة تود ذلك ..؟
ـ بعد الغداء .. والأحسن أن أتلفن لك .. لننزل سويا ..
ـ هذا أحسن .. وخذ رقم تليفونى ..
وقلت لها بعد أن دونت الرقم :
ـ وأنا سأعطيك تليفونى ..
ـ أنا أعرفه ..
فحدقت فيها باندهاش ..

إنها تتكلم الإنجليزية بطلاقة فهل هى التى كانت تدق علىَّ فى الليل وتغير لهجتها لتخفى شخصيتها .. وإذا لم تكن هى فلماذا انقطع الرنين بعد أن التقينا ..؟

سبحت فى بحر من الغموض .. ومع ذلك فإنه من السهل عليها أن تعرف رقم تليفونى مادامت قد عرفت رقم غرفتى .. وتكفى نظرة سريعة فى دليل الفندق ..

وتحت تأثير هذه الخواطر ، ازدادت رغبتى فى أن أسمع صوتها فى التليفون لأبدد هواجسى .. فلم أطلبها وطلبتنى هى .. وسمعت صوتها .. كان مختلفا تماما عن الصوت الذى أسمعه فى نصف الليل .. ولكن فيه نفس الغنة .. يا لحيرتى ..

***

ذهبنا إلى " الجوم " متلاصقين فى الأتوبيس ولما دخلنا من باب هذه السوق الكبيرة شعرت بالزهو وهى بجانبى بفرائها ووشاحها ورشاقتها وجمال قوامها ..

وعندما كان الزحام الشديد يفرقنا عن بعض .. كانت تبحث عنى والخوف يطل من عينيها .. فسألتها :
ـ لماذا الخوف .. لست بالطفل ..
ـ أخشى أن تتوه .. ولن تجد شخصا يعرف الإنجليزية ويدلك على الطريق إلى الفندق ..

وكان هذا الخوف يدفعها لأن تلتصق بى عندما كان الجمهور يجرفنا فى ممرات السوق الضيقة .. أصبحت تمسك بيدى فى كل خطوة ..

واشترينا القليل .. اشترت وشاحا لبنتها .. وعرفت من هذا أنها متزوجة .. ولم أسألها عن زوجها إن كان حيا أم ميتا ..

وفى مصعد الفندق .. صعدنا وحدنا إلى الطابق التاسع .. وأحسست برغبة شديدة فى أن أقبل عينيها وخديها وثغرها .. وأمرغ وجهى فى صدرها .. وكانت فتاة المصعد لاتحول بيننا وبين فعل ذلك ولا شأن لها بعواطفنا ..

وعلى باب حجرتها أمسكت بيدها طويلا ثم تركتها .. وكأننى أسحب معها قلبى ..

***

وفى نفس الليلة .. وأنا أتناول من عاملة الفندق المفتاح .. وأستدير لأتجه إلى غرفتى فى الطرقة الطويلة .. سمعتها تنادينى بعد بضع خطوات ..
ـ يا مستر مختار ..
ـ نعم ..
ووقفت وحولت وجهى إليها ..
ـ ترك لك شخص هذه الربطة ..
ـ لى أنا ..؟!
ـ أجل .. وقال للمستر مختار فى الغرفة 926 ..
ونظرت فى الربطة فوجدت فيها زجاجة " فودكا " و " خرطوشة " سجائر " كنت " ..
فقلت للعاملة :
ـ هذه ليست لى لأننى لا أدخن ..
ـ ولكنه تركها لك ..
ـ أنا لاأعرف أحدا فى هذه المدينة وليس لى صديق فيها على الاطلاق ..
ـ ولكنها تخصك ..

وكانت واقفة بجانبى فى هذه اللحظة " فتاة الغرف " المختصة بجناحنا .. فمددت يدى إليها بالربطة ..
وقلت بالإنجليزية :
ـ خذى هذه الهدية منى .. مادامت زميلتك تصر على أنها تخصنى ..

فتناولتها الفتاة مسرورة وتضرجت وجنتاها وحييتهما ودخلت غرفتى .. وأغلقت الباب ..

وكان الراديو الصغير الموضوع فى حجرتى يذيع موسيقى شجية تهدى الأعصاب .. فسحبته من مكانه ووضعته على منضدة بجانب الفراش .. ودخلت تحت الأغطية ..

***

وفى أخريات الليل استيقظت على حركة فى داخل الغرفة ..

ووجدت الفتاة التى أعطيتها الهدية تحرك الراديو من مكانه .. وقالت برقة لما وجدتنى قد استيقظت :
ـ لقد تركت الراديو مفتوحا ..
ـ شكرا .. وآسف جدا لقد أزعجت النزلاء ..
ـ لا عليك .. والآن نم هانئا ..

وكانت واقفة بالقرب من الفراش وتحدق وتنظر إلى وجهى بحنان .. فأمسكت بيدها برقة .. وتحركت إلى جانبى ..
ولأول مرة أعرف أن معها مفتاحا آخر لغرفتى ..
=================================

· نشرت قصة " الرنين " فى مجلة الاذاعة والتليفزيون 3/4/1976 وأعيد نشرها فىكتاب " قصص من روسيا " مكتبة مصر
================================



قصة القصة
الرنين

سافرت إلى " موسكو " فى صميم الشتاء ، وفى قلبى فرحة ، وفى نفسى لهفة إلى زيارة مقر العباقرة العظام دستويفسكى .. تولستوى ..
جوركى .. تشيكوف .. جوجول .. يوشكين .. الكسندر كوبرين .. جارشن .. هؤلاء القدامى الأفذاذ .. الذين ظلوا صامدين فى وجه كل أعاصير السياسة والتحول .. ولم يستطع أن يطمس نورهم لا قوى ولا ضعيف ..
هؤلاء هم الذين علموا كتاب العالم أجمع كيف تكتب القصة والرواية ..
وما من أحد من الأفذاذ إلا ودان لهم بالفضل .. كتبوا للحياة ومن الحياة .. وعاشت قصصهم ما دامت الحياة تجرى فى شرايين الوجود ..
كانت لهفتى وفرحتى لا حد لها .. وأنا أضع قدمى فى أرض المطار .. ونسيت البرودة الشديدة .. والثلج الساقط .. والشىء الرهيب الذى يجز رقبتك كحد السيف القاطع إن لم تكن قد تلفعت وغطيت الرأس والعنق والأذنين بالصوف السميك .. نسيت هذا كله لأنه بعد ساعات قليلة سأكون فى شارع غوركى .. ومنـزل تشيكوف ..
غوركى الذى علم نفسه وخرج من مدرسته وقلب الحياة كأعظم أستاذ وأعظم معلم ..
وتشيكوف الذى زار جزيرة سخالين .. ليكون قريبا جدا من نبض الحياة .. ونبض الواقع ..
وليكون أنبغ كاتب قصة قصيرة فى هذا العالم ..
كان يكتب على مائدة صغيرة فى غرفة الكشف على المرضى ..
وفى هذه الغرفة كان ينام أيضا .. وظل بيته فى موسكو محتفظا بكل دقائقه الصغيرة وطابعه .. كأن صاحبه لا يزال حيا ويتنفس فيه ..
القلم الذى كان يكتب به روائعه كما يكتب به روشتات المرضى .. ظـل موضوعا فى مكانه من المكتب .. أى حفاظ وأية رعاية .. بالخالدين ..
نزلت فى أكبر الفنادق بالمدينة .. وأصبح فى نظرى مدينة عامرة فهو من تسعة طوابق .. وضخامته لاحد لها .. واسمه يطابق المقاطعة التى ينتمى اليها ..
ولابد من ذكر كل هذه التفاصيل .. لتكون القصة أكثر وضوحا فى ذهن القارىء ..
أخذت الدور التاسع .. ليقع نظرى فى سهولة على أنوار المدينة فى الليل .. وعلى الثلج الساقط .. وعلى الحركة فى الشارع .. حتى إذا حبسنى البرد والثلج عن الخروج من الفندق .. أجد فى هذا المنظر المتجمع ما أتنسى به ، ويخفف عنى وحدتى ..
ولكن حدث ما خفف عنى وحـدتى من حيث لا أحتسب ولا أقدر ..
ففى منتصف الليل تماما .. وكانت الساعة الكبيرة تدق .. سمعت رنين جرس التليفون فى غرفتى .. فقمت من تحت الأغطية السميكة .. واتجهت إليه ..
ـ آلو ..
ـ آلو ..
ـ من المتكلم ..؟
ـ من المتكلم ..؟
كانت المتحدثة سيدة تتكلم بالإنجليزية بلهجة أجنبية واضحة .. فى نفحة صوتها .. وتردد نفس كلامى .. ولا شىء آخر .. ولا إيضاح أكثر ..
ـ أرجوكى .. ماذا تريدين ..؟
ـ أرجوكى .. ماذا تريدين ..؟
ـ لقد أخطأت فى رقم التليفون ..
ـ لقد أخطأت فى رقم التليفون ..
ـ أرجوكى أنا مريض ..
ـ أرجوكى أنا مريض ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..
ـ لماذا هذا العبث فى الليل ..
ـ ليس معى دولارات ..
ـ ليس معى دولارات ..
وكانت موسكو فى ذلك الوقت .. فقد فتحت أبوابها للجميع .. بعد إغلاق طويل .. ففكرت أن تكون واحدة من نزلاء الفندق .. أصبحت فى حاجة ملحة إلى شراء شىء تاقت إليه نفسها .. ولكنها لا تستطيع شراءه إلا بالدولار .. والبيع والشراء فى سوق الفندق الحرة بالدولار ..
وفى الليلة التالية .. وفى نفس الوقت .. سمعت رنين التليفون ..
فنهضت من الفراش .. وسمعت نفس الصوت يتحدث بالإنجليزية بلكنة أجنبية واضحة ويردد كلامى ..
تكرر هذا العبث أسبوعا بطوله .. وكان فى استطاعتى ألا أتحرك .. ولا أرفع السماعة .. ولكننى كنت أتصور أنها قد تفصح عن نفسها بعد كل هذا الغموض .. وينزلق من لسانها زلة تعرفها بشخصها ..
وهكذا أصبح هذا الرنين جزءا من اقامتى فى الفندق ، وطابعا من وجودى فيه ..
واتجهت إلى البحث عن هذه السيدة بين نزلاء الفندق بكل ما أملك من جهد .. وكان فى الطابق الذى أقيم فيه نزلاء .. من طاقم طيران يابانى ومن الهنود ومن الألمان ، وبعد أن سمعت صوتهن استبعدتهن تماما .. ومن السهل أن تكون من العاملات فى الفندق .. أو من مركز الاستقبال فيه .. ولكن معرفتها ستجرها إلى الفصل من الخدمة .. فما أشد النظام والصرامة فى موسكو وهما الطابع البارز لها ..
فهل جئت للسياحة والدراسة أم لقطع أرزاق الناس ..
ولكن كيف عرفت رقم تليفونى .. من السهل ذلك متى عرفت رقم الغرفة ..
تركت الأمور تجرى فى أعنتها .. وتركت التليفون يرن ..
ولكن حدث ما جعلنى أضيق من الحلقة التى كنت قد رسمتها حول المتحدثة ..
ففى كل طرقة من طرق الفندق .. عاملة تجلس إلى مكتب .. ويسلمها النزيل المفتاح .. عند خروجه ويأخذه منها عند عودته ..
وهذا النظام يعمل به فى كل طابق من الطوابق التسعة .. ولذا يكثر وجود هؤلاء العاملات وهن يتغـيرن ، فالتى فى الصباح غير التى فى المساء ..
وحدث وأنا أتسلم المفتاح فى الليل من العاملة المخصصة لطابقى .. أن وجدتها تبتسم .. وتبتسم ابتسامة خمنت أن لها معناها .. وأصبحت كلما أخذت المفتاح منها .. أرى على وجهها هذه الابتسامة ..
قد تكون هى .. أو أعطت رقم التليفون لنزيلة .. لمجرد العبث .. أو الترويح عن النفس فى وحدة الليل وبرده ..
ولكن ما جدوى هذا .. وأنا قد استبعـدت كليـة الاضرار بأى أنثى .. مهما لاقيت من عذاب وقلق ..
كانت الابتسامة الجميلة على ثغر الفتاة وهى تسلمنى المفتاح ..
وقالت برقة :
ـ انتظر دقيقة .. لك هدية ..
ـ لى أنا ..!
ـ نعم ..
وأخرجت كيسا من الورق .. فنظرت فيه فإذا بداخله " خرطوشة " سجائر .. وزجاجة فودكا .. وبعض الحلوى من الشيكولاته وغيرها ..
وقلت للعاملة بعد أن نظرت إلى هذه المحتويات :
ـ الهدية ليست لى ..!
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى لا أدخن ..
ـ ولكن الذى جاء بها .. حدد رقم الغرفة .. وهى غرفتك ..
ـ هل ذكر اسمى ..؟
ـ حدد رقم الغرفة ..
ـ حدث خطأ .. وأنا لا أقبل هدية ليست لى ..
ـ وماذا أصنع الآن ..؟!
ـ تردينها للشخص الذى أرسلها ..
ـ أنا لا أعرفه .. جاء قبلك بساعة وقال هذه للغرفة .. ومضى سريعا ..
ـ اقبليها اذن هدية منى ..
ـ كيف أقبلها وأنت ترفضها .. وأنا لا أدخن مثلك ..!!
وضحكنا ..
ولما رجعت إلى القاهرة .. ظلت الصورة حية فى ذهنى .. وكتبت قصة " الرنين " ..
ومهما يكن وقع القصة عند القارىء ولكن كانت من القصص التى أحببتها ..
====================================
* نشرت الذكريات فى مجلة القصة ـ العدد 43 ـ يناير 1985
* نشرت قصة " الرنين " فى مجلة الاذاعة والتليفزيون 3/4/1976 وأعيد نشرها فىكتاب " قصص من روسيا " مكتبة مصر
==================================

ليست هناك تعليقات: