الثلاثاء، ٩ أكتوبر ٢٠٠٧

مجلة العروسة تعود من جديد

(7)
ذكريات مطوية
مجلة العروسة تعود من جديد
بقلم محمود البدوى


لا أدرى كيف وقع علينا الأخ " طلبة " الاسم مستعار .. ومن أى كوكب هبط .. وكان الأخ طلبه يعمل مندوبا للإعلانات فى الصحف المصرية وكان كثـير الحركة دؤوبا متنقلا يقع على فريسته من أول جولة .. وكنا فى مجلسنا فى مقهى بور فؤاد .. عندما جاءنا ذات مساء وقال لنا إن دار اللطائف قررت إعادة إصدار مجلة العروسة بعد إحتجابها الطويل وعهدت إليه هو أن يختار هيئة التحرير ..

وقد اختارنا وهو على يقين بأننا لن نرفض هذه الفرصة الذهبية .. فالمجلة معروفة فى السوق ورئيس تحريرها من أعلام الصحافة .. وعودتها محررة بأقلامنا ستكون إنتصارًا لنا ونحن فى بواكير الشباب ..

وكان رئيس التحرير معروفا جدا فى الوسط الصحفى .. فلم تكن هناك حاجة لرئيس تحرير جديد ..

وكان الأخ طلبة على صلة بواحد منا ويعرف مكاننا من المقهى الذى نجتمع فيه كل مساء .. ويعرف أننا جميعا من أدباء الشباب المشتعلين حماسة للكتابة والنشر .. وفينــا شـاعران .. فتحى مرسى .. وإبراهيم طلعت .. وأديبان .. هلال شتا وأنا ..

ووافقنا نحن الأربعة على العرض فى أول جلسة فى المقهى ولم نحدد الأجر .. ولكنا اشترطنا شرطا واحدا .. شرطا قاطعا وهو أن لا يتدخل أحد فى الدار مهما تكن صفته فى التحرير .. ووافقوا على ذلك ..

وفى مساء اليوم التالى إجتمعنا وذهبنا إلى الدار .. وكانت فى عمارة بباب اللوق بجوار محطة حلوان .. وصعدنا إلى مقر المجلة ..

وكان المقر جميـل التنسيق ونظيفـا والحجرات واسعة والمكاتب أنيقة ..

ولاحظنا لافتات بصيغة الأمر على الحوائط والأبواب .. لا تدخن فى المصعد .. لا تفتح باب المصعد أثناء حركتـه .. إضغط على الزر هكذا .. لا تشد السيفون بعد الساعة .. وكثير غير ذلك من الأوامر والمحظورات ..

ولما كان مقر المجلة نظيفا ومرتبا ورائع التنسيق فإن هذه اللافتات لم تضرنا فى شىء .. وإن أضحكتنا .. ولكن أثرها كان واضحًا وبارز النتيجة ، فدور الصحف التى دخلناها قبل هذه الدار كانت مثالاً للفوضى وسوء النظام .. فالمطبوعات ملقاة على الأرض ، والمكاتب يعلوها الغبار ، والنوافذ والأبواب فى غاية القذارة .. فلماذا نضحك على النظام ..؟

***

وبدأ العمل من جانبنا فى إخراج المجلة وتحريرها .. وكان عندهم فى الأرشيف مجموعة طيبة من الصور .. فأخذنا نختار ما يلائم العروسة .. وبرز التجـديد والابتـكار واضحين فى طريقة عرض الصور وفى التحرير ..

وكنا نشترى المجلات الأجنبية من القروش التى فى جيوبنا علاوة على المجلات التى عندهم وما أكثرها .. لنتخذ منها المثل .. ولنثبت وجودنا كمحررين مجددين نحمل الذوق الفطرى إلى التجويد والتطور ..

واخترنا الموضوعات السهلة وترجمنا الجيد السهل مما يهم المرأة فى زينتها وحياتها اليومية ..
وصدر العدد الأول .. وكان من الأعداد الجميلة ..

***

وكان العدد الثانى معدا .. ولكنا إشترطنا أن نتفق على الأجر وأن نقبض ثمن العدد الأول قبل صدور العدد الثانى .. وحدثنا الأخ " طلبة " بذلك ونحن فى مكاننا من المقهى .. ورأى الإصرار فى وجوهنا ، فغاب عنا يومين وفى اليوم الثالث دس فى يد أحدنا ظرفا مغلقا وشرب القهوة وخرج .. ولما بارح المقهى فتحنا الظرف وإذا بداخله ورقة واحدة بخمسين قرشا .. وبهتنا .. ولكنا ضحكنا بعد المفاجأة كثيرا ..

فقد خدعنا الملعون بنذالة ، وأخذنا نفكر فى تقسيم المبلغ .. ورأينا أن نعطيه لمن يدخن منا نحن الأربعة .. ولما أدركوا أننى سأصبح المظلوم الوحيد .. عدلوا عن ذلك وتعشينا بالمبلغ من كباب الحسين وشربنا الشاى الأخضر عند الفيشاوى ..

***

وافترقنا بعد العشاء .. ورأيت أن أذهب إلى بيتى ماشيا وأستمتع بقاهرة المعز الجميلة فى هدأة الليـل .. وكنت أسكن فى شارع قدرى بالسيدة زينب .. فرأيت أن أسير من الغورية إلى المغربلين ثم اخترق شـارع محمد على إلى الحلمية الجديدة .. ومنها إلى شارع قدرى ..

وكان رأسى يشتعل بقصة رأيت أن أكمل خطوطها فى رأسى قبل تسطيرها على الورق .. ويسهل على ذلك وأنا سائر وحدى ..

وفى الصباح بدأت فى كتابة القصة ، وكان الجو حارًا وبالغ الحد فى حرارته .. ومع ذلك واصلت الكتابة لأن القصة كانت تجربة قاسية فى عربة من عربات الموتى فى الليل والظلام والوحشة والكآبة ..

وكانت الكآبة تلفنى وأنا أكتب .. فحاولت التخلص منها بالكتابة ولهذا واصلت العمل حتى الساعة الثالثة بعد الظهر ..

وسمعت وأنا أكتب نقرا على الباب .. فتحركت إليـه .. وفتحتـه .. ووجدت عاشور عليش على الباب .. وكانت هـذه أول زيارة له .. واللقاء الثانى بيننا ..
ودخلنا إلى المكتب .. ووجدنى أكتب ..

فسألنى :
ـ قصة جديدة ..؟
ـ أجل ..
ـ وأنا جاى عاوز قصة ..

وفهمت من عاشور .. أن جريدة يومية كبرى .. تريد أن تخرج مجلة إسبوعية على غرار مجلة آخر ساعة .. وعهدت إليه مع صحفى آخر بجمع مواد هذه المجلة الجديدة وإخراجها ..

وسألته :
وما اسم هذه المجلة الجديدة ..؟
ـ كليوباترا ..
ـ ومتى ستصدر ..؟
ـ فى أول الشهر ..
ـ هكذا بسرعة ..
انتهى الأمر إلى هذا ..
وأنا لا أحب أن تقلد مجلة مجلة أخرى .. والمجلات التى خرجت لتقلد من قبلها .. لم تعش طويلا وماتت ..
وأعطيته بعد يومين القصة التى كنت أكتبها ..

وصدرت المجلة ونشرت القصة برسم جميل يعبر عنها .. ولكنى شعرت بغصة فى حلقى وأنا أقرأ الجزء الأخير منها .. فقد حدث خلط فى الجمع والتوضيب .. وتقدمت فقرات من القصة على فقرات ..

وأصبحت القصة فى نظرى غير مفهومة .. ولكن هذه الحساسية الشديدة نحو القصة لم يلاحظها سواى لأنى المؤلف .. أما القراء وحتى عاشور .. الذى اعتاد على مثل هذا الخلط .. لم يلاحظ شيئا ذا بال غير من صلب القصة ..

أما أنا فقد بقيت مرتاعًا إلى أن نشرت القصة على وجهها الصحيح فى كتاب " العربة الأخيرة " ..

وكنت بالإسكندرية يوم صدر العدد الأول من مجلة كليوباترا الذى نشرت فيه القصة ، وقابلت هناك مصادفة فى محطة الرمل المرحومين هلال وغريب .. ولم يلاحظا سرورى بالقصة ..

وقال غريب لهلال :
ـ محمود .. هكذا أبدا .. لا يدرك الجيد الذى يكتبه قط وقد يعجب بأقل القصص قدرا .. ولكن الجيد المميز لا يدركه أبدا .. ويظل فى وسواسه ..

وكان حقا ما يقول .. فما أعجبت بشىء كتبتـه قط .. وقد يأتى الإعجاب عرضا لفترة قصيرة ثم يذهب لأن القصة كتبت فى جو كنت أحبه .. أو أن أشخاص القصة لهم أثرهم فى نفسى ..

وتريحنى القصة بعد كتابتها ونشرها راحة نفسية مطلقة ، ثم ما يلبث أن يعاودنى القلق مما أحس فيها من قصور ونقص لم أدركه ساعة الكتابة وقبل النشر وأظل فى هذه الدوامة المعذبة أدور .. وأدور ..

وعاشور عليش خلية نشاط ليس لها من ضريب وهو يفتح لك الأبواب المغلقة ويعديك بحماسه ونشاطه .. وهو معروف فى وسطه الصحفى وبين أقرانه بأنه أستاذ الأساتذة فى " توضيب " الصفحة ووضع العناوين الملفتة للأنظار .. فنان أصيل ..

وقد اشتغل فى السوادى والزمان والمساء والجمهورية ..

وفى الزمـان كان معه عبد العزيز الدسوقى .. وعبد العزيز الدسوقى .. انسان نبيل الصفات .. وما شاهدته إلا باسما .. حتى فى أشد ساعاته انشغالا بالعمل .. باسما ومرحبا .. وهما خصلتان لا تجدهما إلا لمن تربى فى حضن الريف .. ونبع من عراقة وأصالة ..

فى الزمان عرفت عبد العزيز الدسوقى لأول مرة .. وظل مع نهجه وطبعه منذ عرفته .. يسعده أن يعطى أصدقاءه من كرمه وخيره ولا يأخذ ..

ولما رأيت بعـد ذلك بسنين أن أهديه مجموعة قصصية كان السبب فى نشرها ، لأنى بطبعى لا أتحرك لناشر .. وجدته قد رفع الإهداء دون أن أعلم .. وحال بينى وبين التعبير بالشكر عن كل ما غمرنى به من معروف ..

وفى جريدة الزمان كنت ألقاه هو وعاشور عليش .. وأشعر براحة كبرى مع أنى لم أتقاض طوال صدور الزمان مليما واحدا أجرا لقصة ..
ولكن كنت أحس بوجودى كأديب وكاتب قصة ..

وهما اللذان فتحا نفسى وقلبى للكتابة فى بكائر أيامى .. وما شعرت معهما إلا بالوفاق والتشجيع على مواصلة السير فى طريقى ..

وكان عاشور عليش بعد سكنه فى مصر الجديدة يسأل عن سبب انقطاعى كلما شعرت بالكآبة النفسية وتوقفت ، وما يزال بى حتى يجعلنى أتحرك من جديد ..

ولما قامت الثورة سنة 1952 كان عاشور عليش أول المتحمسين لها والمعجبين بها ، فألف كتابا سماه " القسم " كان طابعه وناشره ..

وخسر فيه الكثير .. ولكن حبه للثورة جعله ينسى الخسارة ..

وظل على نهجه وحماسته وقوة دفعه .. وكلما التقيت به دفعنى إلى الكتابة وأشعل فى قلبى الحماس والأمل إلى شىء جديد ..
وفى ضوء هذا الأمل نعيش ونكتب ..
=================================
نشرت فى مجلة الثقافة ـ العدد 83 ـ أغسطس 1980 وأعيد نشرها فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006
=================================

ليست هناك تعليقات: