الاثنين، ٨ أكتوبر ٢٠٠٧

قصة الرنين وحكايتها

المهاجر

الدكتور " صبحى " طبيب أسنان كهل يعيش وحيدا فى المنزل رقم 105 فى شارع سيدى جابر بمصر الجديدة .. عيشة رضية خالية من أمراض الشيخوخة ومتاعبها ..

واتخذ الطابق الأول من المنزل للعيادة والسكن معا .. أما الطابق الثانى فكان يسكنه شاب فى الثلاثين من عمره ويشتغل موظفا فى احدى الوزارات ..

والطبيب والموظف من العزاب وقد جمعتهما العزوبة فى بيت واحد فى شارع هادىء .. قليل الحركة خفيف الضوء ..

واتخذ الطبيب لنفسه نهجا منذ جاوز سن السبعين .. فقد خفف من عمله كطبيب وأصبح لا يستقبل إلا القليل النادر من مرضاه وكانوا يأتون إليه فى فترات متباعدة فى الصباح والمساء ..

ومنذ سنوات طويلة وهو يفكر فى السفر إلى الخارج كمهاجر ويعيش فى " لندن " فقد تعب من كد الحياة وأراد أن بذهب إلى هناك ويستريح من كل عمل ..

وعندما فرضت الحراسة على بعض الأفراد ضاعت الثقة بينه وبين البنوك فسحب أمواله من البنك الذى يتعامل معه وأودعها فى بيته واختار لها مكانا تصور فيه الأمان المطلق وهو أن يحشرها بعد وضعها فى ظرف كبير .. بين مراجعه العلمية فى مكتبته ولا أحد يفكر فى سرقة الكتب ..!

وأخذه الوسواس فكان يطمئن على هذا الظرف وما فيه من نقود فى الصباح والمساء وقد ربط كل الف جنيه فى ضمة واحدة ليسهل عليه العد والمراجعة ..

وكان قرار السفر قد جعله يستعجل كل الأمور .. كما كان من عادته أن يزور " لندن " كل عام وبقضى فيها شهرين على الأقل .. لأنه قضى فيها سنين الدراسة وهو طالب وله فيها من المعارف المصريين ما يؤنس وحدته ..

ولكنه أجل السفر فى هذا العام بعد أن قرر الهجرة إليها نهائيا واختار فى ذهنه الحى الذى سينزل فيه .. والبيت الذى سيأويه ..

واضطر وهو الطبيب المثقف الذى يؤدى عمله بكل أمانة أن يلجأ إلى وسيط ليستطيع أن يهرب كل المبلغ الذى معه بعد أن صفى جميع أعماله ..

وفى أثناء الدوامة التى انشغل فيها الطبيب مع كبر سنه لاستخراج اجراءات السفر وتصفية أموره .. جاءته قريبة له من " المنصورة " لتزوره لما علمت باعتزامه الهجرة ..

وأثناء صعودها سلالم البيت وجدت شابا يخرج من عيادة الطبيب فلم تكلمه لأنها حسبته من المرضى كما حسبها هو ..

ولما دخلت هى العيادة وجدت الدكتور " صبحى " فى مكتبه جالسا على كرسيه ولكنه مخنوق وحسبته أولا مغمى عليه .. ولما تبينت موته صرخت .. وجاء الناس على صراخها من الشارع على قلتهم .. وحدثت الناس والبوليس بالشاب الذى رأته يخرج مسرعا من العيادة وهى داخله ..

كما روت للبوليس أن الدكتور صبحى كان يحتفظ فى بيته بكل أمواله بعد سحبها من البنك .. ووجدت المكتبة والأوراق والكتب مبعثرة .. والنقود مسروقة ..

ولما كان القتل قد حدث للسرقة وليس لشىء آخر .. فقد أخذ البوليس يراجع أسماء المترددين على العيادة فى الأيام الأخيرة وكان الطبيب يقيد الأسماء والعناوين بدقة وعناية ولم يتعد عدد هؤلاء ثمانية أشخاص .. وبعد سؤالهم بعدت عنهم الشبهة ..

وحددت الشبهة فى الشاب الذى رأته السيدة " مديحة " قريبة الدكتور وهى طالعة السلم ..

وكان هذا الشاب هو آخر من تحرك وشوهد وأعطت أوصافه .. وتبين أنه الساكن الوحيد فى المنزل ويقيم فى الطابق الذى فوق الطبيب .. ولا طوابق بعده ..

ولما عرض عليها مع صف من الشباب فى مثل سنه .. أخرجته من بين الصفوف ثلاث مرات ..

وطالت الاجراءات وظل الشاب فى الحبس .. مع أن بصماته غير البصمات التى وجدت فى المكتبة التى سرق منها المبلغ .. كما أن تفتيش بيته لم يسفر عن شىء له علاقة بالحادث .. والتحريات عنه دلت على أنه مثال الاستقامة والأمانة فى عمله وسلوكه الخارجى ..

ولكن شهادة السيدة " مديحة " كانت قوية ضده .. فهو آخر من شاهدته خارجا من باب العيادة وهى طالعة السلم كما كان مسرعا ومضطربا ..

***

وكانت هناك شغالة تنظف عيادة الطبيب وبيته كل صباح وهى فى الوقت نفسه ممرضة فى مستشفى الدمرداش .. وتأتى مبكرة جدا لتستطيع أن تزاول عملها فى المستشفى بعد ذلك فى المواعيد المحددة لها واستجوبها البوليس وفتش بيتها ثم أخلى سبيلها بعد أخذ بصماتها ..

واعتاد الطبيب أن يتناول طعامه من مطعم قريب وكان عامل المطعم يأتى له بطعام الغداء .. فى الواحدة والنصف بعد الظهر .. وطعام العشاء بعد الساعة الثامنة مساء ..

ولكن الطبيب بعد أقل من ثلاثة أشهر استغنى عن هذا المطعم لأنه وجده يغش فى أصناف اللحوم وبعض الأصناف الأخرى دون رقيب وأخذ الدكتور يخرج بنفسه فى ساعة الغداء والعشاء ويختار ما يروقه من المطاعم ..

ولكنه فى اليوم الذى مات فيه أحس بتعب شديد ولم يستطع النزول ليأكل فى الخارج فاضطر أن يطلب طعام العشاء بالتليفون من المطعم الذى كان يتعامل معه من قبل ..

وجاء عامل المطعم يحمل الصينية وصعد السلالم فى الليل ووجد باب العيادة مفتوحا فدخل وألفى الطبيب جالسا على كرسيه فى حالة استرخاء فحسبه نائما ووجد درج المكتبه الذى على يمينه مفتوحا وتطل منه أوراق وكان العامل يرى الطبيب من قبل يفتح هذا الدرج ويقفله كثيرا فاقترب منه وأزاح مجلدا طبيا باللغة الإنجليزية غطى سطح الدرج .. وبرز الظرف .. وبحلق مذهولا فقد تكشفت له الأوراق المالية فى صفوف ..

جحظت عيناه وكف وجيب قلبه وتحول إلى الدكتور فألفاه لايزال مستغرقا فى نومه .. حدق فى وجهه طويلا .. ثم سحب سريعا الفوطة التى كانت على صينية الطعام ولف بها عنق الطبيب وضغط وأخرج حزم الجنيهات من الدرج بظرفها ووضعها فى صندوق أدوية ودلق الطعام الذى جاء به للطبيب فى صندوق الزبالة حتى لا يثير الشبهات .. ووضع صندوق النقود على صينية الطعام وغطاها بالمفرش .. ونزل سريعا .. وكان فى حالة فزع أولا .. ثم وقف على السلم قليلا ليستكن ويسترد أنفاسه ..

ووجد بائع كشك فى مواجهة البيت ينظر إليه .. ثم يسأله لما وجد الصينية كما هى مغطاة بالمفرش .. لأنه لم يكن من عادته أن يغطيها بعد الأكل .. وكان يطوى المفرش ..
سأله بائع الكشك :
ـ الم تجد الدكتور .. يا شعبان ..؟
ـ لا .. وجدته ..
ـ وأكل ..؟
ـ نعم .. أكل سريعا .. الظاهر .. عنده مشوار ..

واضطر أن يجارى بائع الكشك فى حديثه .. وأن يشترى منه زجاجة عصير .. ويشربها وهو واقف وعلى رأسه الصينية وسأل نفسه متعجبا لماذا يسألنى هذا الوغد هذه الأسئلة الآن ..؟ وما وجه إلىَّ من قبل سؤالا قط ..

ولما دخل بالصينية المطعم .. لم يجد صاحب المطعم .. ووجد الفتاة العاملة على الخزانة فأعطاها المبلغ الذى اعتاد الطبيب أن يدفعه لعشائه وقال لها أنه يشعر بالتعب وذاهب إلى البيت لينام .. وسيعود مبكرا فى الصباح ..

وسار فى شوارع مصر الجديدة فى الليل وهو يفكر فى المكان الذى سيخبىء فيه الصندوق .. فلو أخذه إلى البيت فسيراه زوج أمه ويضربه ويستولى عليه .. وإذا حمله إلى بيت رفيق له لم يأمن شره ..

وكان قد بصر بكوم عال من التراب عند مساكن الألف مسكن والمكان قريب أيضا من سكنه فاستقر رأيه على أن يدفن الصندوق فيه ..

وذهب إلى المكان وكانت الاضاءة معدومة فيه والظلام يخيم .. ووضع الصندوق جانبا وعاينه ولكنه رآه قريبا من مساكن الرحل الذين يجمعون الأوراق والحشائش على الحمير فى أحياء مصر الجديدة ويفتشون فى الأرض وينبشونها فخاف من شرهم وعدل عن هذه الفكرة ..

وشل تفكيره تماما وهو يحمل الصندوق بعيدا عن المكان الذى اختاره وعن بيته .. ان هذا الوحش الذى فى البيت والذى يضرب أمه فى الصباح والمساء لأنها دنست فراش أبيه وتزوجته ويضربه هو ويستلب منه أجره اليومى من المطعم ليس من الصواب أن يقترب منه ويراه مرة أخرى وسيفر منه الآن إلى الأبد ..

وأخيرا هداه تفكيره أن يذهب بالصندوق إلى خاله فى " طنطا " ..

***

ونزل من الأتوبيس ودخل محطة مصر وبيده الصندوق وكان الليل قد انتصف والأنوار متألقة فى الداخل والخارج وسأل عن قطار مسافر إلى " طنطا " فقيل له أنه لايوجد إلا قطار الصحافة وهو يتحرك فى الساعة الثالثة صباحا فجلس على قهوة هناك عند مكان قطع التذاكر ..

وكانت القهوة مزدحمة بالمسافرين إلى بحرى وقد وضعوا لفائفهم وسررهم وأقفاصهم بجانبهم ومنهم من نام فى مكانه وكان هناك بعض النسوة المسافرات بأطفالهن على صدورهن وبين أرجلهن وقد تجمعن فى ركن واحد على البلاط .. ومنهن من مدت رجلها وظهر خلخالها الفضى .. ومنهن من جلست متربعة ومنديلها يغطى شعرها .. بعد أن حسرت عنها الطرحة من شدة حر شهر يوليو الخانق ..

وكان الهواء راكدا فى القهوة مع أنها غربية وبناية المحطة لا تحجب عنها الهواء ..

وكان عامل القهوة يحمل كوب الشاى الأسود لكل الناس من يطلب ومن لايطلب .. بمجرد جلوسه على كرسى القهوة يأتى له بالكوب .. باردا .. أو ساخنا هذا لايهم .. ومر باعة السجائر بكثرة من بين الكراسى .. وباعة الطعام الجوالة فاشترى شعبان منهم وتعشى وقد شعر بنهم شديد فأكل رغيفين وطعمية وبيضة ومع هذا ظل شاعرا بالجوع ..

وشاهد وهو جالس رجلا يشترى " سبتا " من امرأة تبيع " السبات " خارج بوابة المحطة .. ففكر أن يضع فيه الصندوق ويكون أوفق وأضبط فى حمله واشترى " سبتا " من المرأة بأقل مساومة فقد كان يبحث عن الشىء الذى يريحه فى السفر .. وباعت المرأة ثلاثة أسبته أخرى لبعض الجالسين فى القهوة ..

ووجد " شعبان " نفسه بعد أن اشترى " السبت " ليس معه نقود يقطع بها تذكرة السفر .. ففكر أن يخرج ورقة بعشرة جنيهات من الصندوق .. أول ورقة فى ربطة على السطح .. ولكن كيف يخرجها أمام الناس ..

فمنذ دخل القهوة وهو يشعر وسط هؤلاء المسافرين بالأمان المطلق وبعدت عن رأسه كل الهواجس التى كانت تطن فى رأسه وتطارده فى المترو والأتوبيس والشارع إنه هنا وسط هؤلاء الناس من طبقته من ركاب الدرجة الثالثة فى كل قطار .. إنه هنا فى أمان مطلق ومسافر فى غير رجعة إلى مكان لاتقع عليه عين البوليس ولا عين الشيطان نفسه إذا فكر الشيطان أن يطارده ..

***

حمل " السبت " بعد أن وضع فيه الصندوق وخرج من القهوة ولف إلى الشمال ودخل من البوابة الكبيرة التى تدخل منها العربات وجلس تحت الباب المزخرف المعد لكبار المسافرين .. وبعيدا عن أعين الناس وضع يده فى داخل الصندوق وأخرج بحذر وخفة ورقة بعشرة جنيهات .. طواها بسرعة فى جيبه .. وعاد كما كان إلى القهوة ..

وبعد كل نصف ساعة كان يطلب الشاى ليظل متيقظا فى مكانه هذا فلو نعس فسيفقد كل شىء ..

ومرت لحظات رهيبة على عقله الممسوخ .. كانت فرحته بهذا المبلغ الكبير الذى يحمله .. والذى أصبح ملكا له قد أبعدت ذهنه المريض عن كل تفكير مما فعله فى الطبيب المسكين عندما طوى على عنقه الفوطة فى لحظة خبل .. الطبيب الذى كان يجزل له العطاء بعد كل وجبة ويعطيه بالعشرة قروش والعشرين قرشا وأكثر من هذا البقشيش ويعالج ألم أسنانه وأسنان من يعرفه دون أجر على الاطلاق ..

ما فعله الطبيب من خير وحسنات لم يخطر على باله .. ولم يفكر فيه بعقله الملوث قط .. مادام قد هرب وأفلت من التجريم فإن ذهنه لا يندم على شىء شرير فعله أبدا ..

إن الندم لايدور فى ذهن هؤلاء الناس أبدا .. والخوف من العقاب يأتى من الخوف من البوليس والوقوع فى قبضة القانون .. وغير ذلك لا شىء .. ولهذا يعودون إلى الجريمة ويكررونها بعد استعذاب وقعها فى نفوسهم ..

***

وجد الجمهور يقف على الشباك ليقطع التذاكر .. فوقف معهم .. ولما جاء دوره أخرج الورقة ذات العشرة جنيهات .. فبحلقت فى يده العيون ..

ورأى الورقة شخص كان لايزال جالسا على القهوة فظل فى مكانه يرقب بعين الصقر فريسته قبل أن تفلت منه ..

***

ودخلت الجموع المحطة لتركب القطار .. وكان الزحام على أشده .. فهناك أناس يركبونه ليدخلوا المدن فى الصباح الباكر مع الشمس .. وينجزوا عملهم ويعودوا إلى بيوتهم فى نفس اليوم .. دون حاجة إلى الفنادق والمصاريف الأخرى .. وهناك الذاهبون إلى البحر .. وهناك .. وهناك غيرهم ..

وعندما صعد " شعبان " إلى العربة كان كل من حوله من الصاعدين يحمل " سبتا " مثله ..! وبشق الأنفس كان قد استوى فى بطن العربة ولكن " السبت " أفلت من يده .. ثم عاد وأمسك به فى قوة ..
وعندما جلس أمسك به أيضا وشد من قبضته عليه ..

ووجد بعض الركاب والجنود يجلسون فوق الرفوف العلوية المعدة للحقائب والأمتعة .. وعلى الحواجز وقفوا .. ومن الشباك دخلوا .. وفى لمحة عين تحولت العربة إلى مركب ..

وتحرك القطار وأخذ الباعة الجائلون يجلجلون بالجرادل المملوءة بالزجاجات .. والمقاطف المحشوة بالطعام ويتحركون كالمردة فى بطن العربات ..

كان القطار يخرج من جو القاهرة الخانق فى ليل يوليو وهو يزفر .. كأنه يزمجر صارخا على مافعله وصنعه فيه الإنسان .. عندما أفسد عرباته ومقاعده ومقابضه ومصابيحه وأفسد طبعه أيضا ..

وكان هناك انسان واحد نزل من القطار وهو يتحرك قبل أن يخرج من دائرة الرصيف ..

وكان يسير وحده على ضوء المصابيح القوية خارجا من المحطة وبيده سبت ..
وكان السبت خفيفا ولكنه كان يعرف محتوياته ..

ومن الجذب والشد فى زحمة القطار برزت من الصندوق .. ورقة فى المجلد الطبى الإنجليزى .. كانت على السطح ..

وكان البهلوان يرقب عقرب الساعة فى محطة كوبرى الليمون وفى ذهنه خاطر جديد ..

كان فى أشد حالات الغبطة لأنه لم يبذل إلا أقل جهد فى هذه المرة ومع ذلك ظفر بأكبر غنيمة حصل عليها فى حياته .. وتحرك عقرب الساعة كما تحرك هو ..

***

وفى الأسبوع الذى أفرج فيه عن الشاب الذى أتهم فى هذه الجريمة وهو برىء طرقت " مديحة " هانم بابه .. وفتح لها واستقبلها بوجوم ..!
وقالت له فى خجل :
ـ أتسمح بدقيقة من وقتك ..؟
ـ نعم ..
ـ جئت أعتذر .. فلم أكن أعرف أنك تسكن هنا فوق المرحوم .. وكان الحادث مفاجئا لى وبشعا وأرجو أن تعذر ظروفى ..
ـ أنا يا سيدتى أعرف عذرك .. ولا داعى لتعبك والمسألة انتهت ..
ـ أبدا .. لقد سببت لك الكثير من المتاعب ةدوالآلام النفسية .. ولا أدرى كيف أمحو أثر هذا من نفسك وأرجو أن تسمح لى الآن بأن أدخل دقيقة ..
ـ أنا يا سيدتى أعيش وحدى ..
ـ وما دخل هذا فى مجرد الكلام ..؟
ـ دخولك فى شقة عازب سيعرضك للأقاويل والمسألة انتهت كما قلت ..
ـ أظن أنه ليس من الذوق أن ترفض استضافة سيدة أكبر منك سنا ..!!

ودخلت .. وكانت فى رداء أسود محكم التفصيل أبرز تقاطيع جسمها وأكسب وجهها الأبيض نضارة فوق نضارته .. وأخذت الشقة بنظرة سريعة وقالت برقة :
ـ ولكن شقتك جميلة ومرتبة ولابد أن يد أنثى هى التى تعمل كل هذا ..
ـ أبدا إنى أنظفها وأرتبها بنفسى ..

ودخل المطبخ وعاد بكوب من عصير الليمون فتناولته منه شاكرة .. وقالت :
ـ أكنت تعرف المرحوم ..؟
ـ كان من أعز أصدقائى .. وقد حزنت على مقتله كما لم يحزن إنسان .. ولو رأيت هذا المجرم لقتلته والنفس بالنفس ..
ـ إن الدكتور لم يقتل ..
ـ كيف .. هذا أغرب خبر أسمعه ..؟
ـ الدكتور كان ميتا .. عندما دخل عليه عامل المطعم بالصينية .. وقد حسبه نائما .. وأغراه المال الذى رآه .. أغراه بالقتل والسرقة .. وحسب حساب الوقت قبل أن يصحو الدكتور .. ولهذا أسرع ووضع فى عنقه الفوطة ليجهز عليه .. ولكنه فى الواقع .. كان ميتا منذ عشرين دقيقة ..
ـ ومن أين عرفت كل هذا ..؟
ـ من تقرير الطبيب الشرعى ..

وسألته وقد نكست رأسها :
ـ هل رأيت " شعبان " هذا ..؟
ـ طبعا رأيته .. وكان يحمل الطعام للدكتور .. ثم انقطع مدة طويلة لأن المرحوم غير المطعم .. واستبدله .. وأخذ يخرج بنفسه إلى مطاعم مصر الجديدة القريبة والبعيدة .. وشعبان هذا تافه وممزق وخائر النفس ولا يفكر أذكى الأذكياء بأنه يستطيع ارتكاب مثل هذه الجريمة ..
ـ ان الجرائم تأتى دائما من هؤلاء المرضى عقليا ونفسيا .. هؤلاء الذين تمزقوا فى داخل البيت وخارجه ..

وتطلعت إلى وجهه وقالت :
ـ أتعرف أن المبلغ سرق منه فى المحطة وهو يركب القطار ..
ـ نعم أعرف .. وقد اعترف " شعبان " بكل هذا بعد القبض عليه وأخذ بصماته ولولا اعترافه ما خرجت أنا من السجن فشهادتك ضدى كانت قوية جدا فأنا آخر شخص كان فى عيادة الدكتور .. وبعدها دخلت أنت وصرخت .. فمن يكون المجرم غيرى ..

وقالت معقبة وعلى فمها ظل ابتسامة :
ـ الحقيقة أن الأدلة كلها كانت ضدك وأنا معذورة .. واسمح لى أن أسألك الآن وقد انتهى كل شىء ..
ـ لماذا دخلت العيادة ..؟
ـ كان من عادتى وأنا نازل من شقتى أن أمر عليه واسأله إن كان فى حاجة إلى شىء .. ولما دخلت فى هذه الليلة .. وجدته نائما فلم أشأ أن أوقظه .. وقلت أتركه فى غفوته إلى وقت آخر .. ولهذا خرجت مسرعا .. وقابلتك على السلم وكانت مقابلة لها تاريخ ..!

ووضحت لها الصورة التى لم تدركها .. وتألمت وظهر أثر ذلك على وجهها ..

وقال وهو ناظرا إلى الأرض :
ـ ان أشد ما آلمنى هو جو الوظيفة الذى أعيش فيه وبعضهم صدق الخبر لما علم أن حادث القتل اقترن بسرقة مبلغ كبير خمسين ألف جنيه وحتى الأصدقاء استبشعوا الأمر أولا واستنكروه أن يحدث من مثلى ثم قبلوه بعد ذلك تحت اغراء الشيطان .. كأن الشيطان هو الذى يحرك مصيرنا على هذه الأرض ويقلب انسانا سويا فى لحظة إلى قاتل ولص ..
وذلك ما يحير الألباب فى تصرفات البشر أجمعين عندما تصادق إنسانا أمينا واخترته لنفسك لأمانته يجب ألا تتزعزع هذه الثقة أبدا مهما كانت الأحوال ..
ـ هذا حق فالأمانة لا توزع .. والذى يسرق القرش يسرق المليون .. والذى يسرق قلم الرصاص من جاره فى الفصل الابتدائى سيظل سارقا بعد ذلك فى كل مركز ووظيفة ..
وأرجو أن توافقينى على هذا ..
ـ طبعا أوافق ..
وضحكت ..
وقال هو مستطردا :
ـ منذ شهور كنت أشترى شيئا من بقال فى الشارع وعلى بابه جموع من الأهالى تصرف التموين .. وجاءت امرأة فقيرة حافية وقالت وهى تمد يدها بشىء :
" خد ياعم " حسين " هذا الجنيه .. "
" ماله ..؟ "
" أنت أعطيته لى زيادة فى الأسبوع الماضى وأنا أصرف التموين "
ونظر إليها الناس الواقفون على باب الدكان فى عجب وذهول فالمرأة لم تقبل الجنيه .. وهى حافية وفى حاجة إلى كل قرش منه وتعرف أن البقال لص والذى يوزع عليه التموين أكثر منه لصوصية ..
ـ ولكن لا شأن لهذا بأمانتها فهى أمينة وهى حافية وهى أمينة ولو ماتت جوعا ..
ـ صدقينى لقد احتقرت هؤلاء الزملاء بعد الذى حدث لى فأما أن تضع ثقتك المطلقة فى صديقك أو لاتكون هناك ثقة ولا صداقة اطلاقا ..
ان تهمتك يا سيدتى جرت علىَّ الوبال من الناس والناس فى مجموعهم تخرج من أفواههم ألسنة من النار .. إذا اجتمعوا انقلبوا إلى شياطين يطنون كالذباب ولا تستطيع أن توقف طنينهم قط ..
ـ ما الذى أفعله لتغفر لى ذنبى ..؟
ـ لا شىء يا سيدتى سوى العزاء .. والصبر .. لقد كان المرحوم من أخلص أصدقائى وموته أنسانى كل مصيبة حلت بى ..
ـ هل حدثك عن سفره ..؟
ـ بالطبع ورسم محل اقامته فى لندن .. وكان سعيدا بهذه الرحلة تواقا إليها ..
ـ نقوم بها نيابة عنه .. ارضاء لروحه ..
ـ من يدخل فى حرف الجمع ..
ـ أنا .. وأنت ..
ـ أنا لم أركب القطار حتى إلى بنها .. فمرة واحدة إلى لندن ..
ونظرت إليه فى استغراب وحسبته يسخر
ـ ألم تركب القطار إلى بنها .. هل هذا معقول ..؟
ـ هو الواقع ..!
ـ فى مثل سنك هذا كثير ..
ـ اننى بحق فى رونق شبابى وأستطيع أن أتحرك مع وثبة الشباب وطوحه .. ولكن الفقر يعصرنى .. هل تعرفين معنى الفقر .. الذى يخيم على أسرة بأكملها ..؟
ـ فى سنك هذا درت حول العالم ..
ـ المال زينة الحياة وحياتك ناعمة وسهلة فلماذا تدخلين معى فى حرف الجمع .. لقد أصبح الحرف كئيبا لأول مرة ..
ـ لا أستطيع أن أجاريك فى الكلام ولكن أشعر بثقل الذنب وحسبت السفر يخفف عنك ..
وسألها وقد رآها تملأ بصرها منه :
ـ السيدة أخت المرحوم ..؟
ـ أبدا أنا قريبة له فقط وعدت من لندن منذ اسبوع ولما علمت باعتزامه الهجرة جئت لأراه قبل السفر .. كان ودودا وطيبا للغاية ..
ـ وكنت فى سياحة هناك ..؟
ـ لا .. كنت أعيش .. عشت خمس سنوات متصلة فى لندن ولما مات زوجى قلت لنفسى أعود لبلدى وهذا خير مكان ..
ـ دكتورة ..
ـ أجل وزوجى كان طبيبا ..
ـ كلكم أطباء وهذا يبشر بالخير لكل مريض .. ولكن إذا مرضت فلن أعرض نفسى عليك ..
ـ لماذا لقد تمرنت فى أحسن المستشفيات فى العالم ودرست على أعظم الأطباء ..
ـ لأنى لن أمرض وسأموت واقفا ..
ـ كان الدكتور صبحى يقول هذا وقد صدق فى كلامه ..
واخضلت عيناها بالدموع ..

وشعر بالعطف عليها وبالود .. ونسى كل ما سببته له ورآها تجاوب على مشاعره بمشاعر دافقة من الحب وكأن الأيام التى قضاها فى الحبس قد ولدت بينهما شعورا بالظلم الذى لا يدرك سببه والقسوة التى تصادف كل البشر فى حياتهم ..

وظلت تسأل عنه كل يوم وتقرع بابه بعد الافراج عنه .. ولكنه سافر إلى قريته مباشرة ليمنع أهله من الحضور إلى القاهرة ويسبب لهم المتاعب ..

فلما أحست بعودته طارت إلى بابه ورأته على حقيقته صبوح الوجه ناضر الشباب والرجولة ضاحكا على عكس ما كانت تتوقع بعد الاتهام الذى لوثته به ..

***

وبعد هذه الزيارة أصبحت تخرج معه إلى كل مكان فى القاهرة ..
وقالت له :
ـ سآخذ شقة المرحوم التى تحتك فهل تساعدنى ..؟
ـ وهل هذا الأمر يحتاج لسؤال ..؟
ـ يعنى تفعل كل شىء ..؟
ـ مازلت " رازكولنيكوف " لدستويفسكى ..
ـ لا .. لا .. لا أرغب فى هذا ولا أحب أن تفعل هذا فى سبيلى ويكفى أن تكون " سيدنى " لديكنز ..
ـ كل امرأة تحب أن تكون محبوبة ..
ـ والرجل ..؟
ـ الرجل مشاغله كثيرة .. والحب دائما فى الظل أما المرأة فلا ..
ـ ولكن المرأة تعمل الآن ولها نفس المشاغل ونفس المتاعب التى للرجل ..
ـ ولكن الحب هو فى البؤرة من قلبها .. ومن حياتها وبه تعيش ..
ـ كل ما أرجوه هو أن تساعدنى كجار وأنت تعرف معنى أخذ شقة من صاحب بيت فى هذه الأيام ..؟
ـ اطمئنى وضعى فى الثقة التى حدثتك عنها ..

***

وقال لها باسما :
ـ بعد أن غيرت العقد وأقمت فى الشقة أرجو ألا تضعى فيها نقودا أو كنوزا فتجرينى إلى تهمة جديدة ..؟

وضحكت وقالت بنعومة وعلى وجهها التأثر :
ـ أعرف أن الأثر لا يزال فى نفسك فمتى تغفر لى متى .. واطمئن ليس معى نقود أخزنها وما دمت فى حمايتك فأنا لا أخاف من شىء .. وشكرها وعجب لأحوال النساء وصعد إلى شقته صامتا ..

***

وجعلت الشقة عيادة وسكنا كما كانت وجاءت بشغالة من البلد وممرضة من القاهرة وأخذت الحياة تجرى ..

***

ووجدت أنه صنع منشرا فى السطح غير المسور للبيت وأمامه فى ركن منه مكان يستريح فيه ويسترخى وفرشه بالحشيات والمخدات ..
فاستأذنته وقالت :
ـ أتسمح بأن ننشر فيه الغسيل .. إن البلكونة لاتصلح وأنا لا أحب أن أنشر غسيلا فى البلكونات وربما تولدت هذه العادة فى اقامتى الطويلة فى لندن ..
ـ على الرحب .. السطح كله لك ..

***

وصعدت وعجبت للمكان ولما نزلت خادمتها بعد نشر الغسيل سألته :
ـ اتخذته مكانا أيضا ..؟
ـ إنى أسكن الأدوار العلوية دائما وأحب أن أكون قريبا من النجوم .. وفى الحرب العالمية الثانية كنت صغيرا وأسكن فى شقة صغيرة فى المنيل قريبة من النيل .. وقريبة أيضا من السماء وكنت أرى منها مآذن القلعة ومساجد القاهرة وقبابها وأبراج الكنائس .. كلها مضاءة وشامخة وصامدة فى وجه العدو .. وكانت الطائرات تروح وتجىء وتلقى قنابلها .. ولكن المساجد والكنائس والقباب ظلت شامخة وصامدة ولم يصبها السوء قط ..

وفى الحرب مع اليهود .. ظلت القاهرة أكثر شموخا .. وحركهم جبنهم ككل عادتهم فى الحروب إلى ضرب مدرسة بحر البقر وما تحت مرماهم فى الاسماعيلية والسويس .. ليثيروا الشعب ضد حكامه .. لأنهم لا يعرفون طباع الشعب ..

الشعب المصرى يتحرك فى المحن بقلب واحد وعزيمة صلبه .. ينسى كل متاعبه ليحقق هدفه .. كل شىء يقبل إلا الهوان ..

وقالت لنفسها إنه يخطب كأنه فى حفل ونسى أنى معه وقريبة منه وأشم رائحة عرقه بل وأسمع دقات قلبه ..وهكدا الرجل دائما ..!

وسمعها تقول لترجعه إليها .. وهى تشير بيدها :
ـ فى ليلة قمرية سنصعد معا إلى هذا السطح ..
ـ شاعرية جميلة من طبيبة .. أن ترى القمر ..
ـ اننا لانراه فى سماء القاهرة وكأنه غير موجود .. إلا إذا خرجنا فى الليل إلى الخلاء .. أو صعدنا إلى فوق .. أطبقت البيوت وخنقتنا .. وتبلد احساسنا بعدها .. ولم نشعر بالجمال ..
ـ إنى أشعر به دائما يملأ طيات نفسى ..
ـ أين ..؟
وأمسك بيدها وضغط .. وشعرت كأنها تطير ..

=================================
* نشرت قصة " المهاجر " فى صحيفة مايو 20/7/1981 وأعيد نشرها فى كتاب " السكاكين "
=================================


قصة القصة
المهاجر

كان الدكتور رمزى من خيار أصدقائى .. وكان نبيل النفس بشوشا فى وجه زبائنه ويتقن عمله إلى درجة التفرد .. ولم يكن سبب معرفتى به لأنه طيب .. وإنما لأنه أديب .. وأديب أصيل فحل من الأدباء الفحول الذين برزوا فى الدراسة والنقد والترجمة .. فى عصر النهضة الأدبية ودوران الفلك مع الأدب ورجاله ..
وكانت عيادته فى ضاحية من ضواحى القاهرة .. تتميز بالهدوء والجمال والنظافة ..
ولكنا كنا نجتمع كل مساء بعد أن يفرغ من العيادة .. فى مقهى " بور فؤاد " بشارع " فؤاد " .. وكان المقهى فى وقتها نظيفا وجميلا ومن أشهر المقاهى فى قلب القاهرة ..
وكنا نجلس هناك ساعة أو ساعتين مع صحبة طيبة من الأدباء الشبان المتفتحين للحياة والأدب .. نقلب فى المجلات والكتب .. التى كانت تصدر فى ذلك الوقت " الرسـالة " للزيات و " الثقافة " لأحمـد
أمين .. والسياسة الأسبوعية .. أما الكتب فكانت عن العقاد .. وحسين هيـكل .. والمازنى .. وطه حسـين .. وتوفيق الحكيم .. وصادق الرافعى .. وسلامة موسى .. وعباس حافظ ..
دراسات وتراجم .. وكان المازنى قد أتحف جمهور القراء بأول أعماله الروائية " ابراهيم الكاتب " كمـا أن أهل الكهف لتوفيق الحكيم .. كانت تدور على كل الألسنة .. والاعجاب بها وصل إلى غايته ..
وكان أول من يأتى إلى المقهى .. الأستاذ هلال شتا .. وكان يعمل فى مجلس النواب .. ( وقد صرفته الوظيفة عن الأدب ) ثم الأستاذان ابراهيم طلعت .. و أحمد فتحى مرسى .. وكانا يتمرنان كمحامين فى مكتب الأستاذ الكبير عبد الرحمن البيلى الذى فعل فعلته العظيمة وغسل أوضار المعاشات عندما كان وزيرا للمالية .. وصان أعراض الأرامل والذرية من البنات .. بضربة بكر جاءت فى الصميم .. وذكرها له التاريخ .. وسيظل يذكرها ..
وكان عمله مثالا لمن يفكر فى عمله باخلاص ويريد أن يخدم وطنه حقا .. لا زيفا ولا تهريجا ..
وكان ابراهيم طلعت .. وأحمد فتحى مرسى .. من الصحبة المختارة لى فى مجلة الرسالة لأستاذنا الزيات ..
وكنا نذهب إلى مقر الرسالة بالعتبة فوق محل الفرنوانى .. قبل أن تنتقل نهائيا إلى عابدين .. ونجلس هناك بالساعات ..
وكان فتحى وطلعت ينشران فى المجلة الشعر .. وأنا أنشر القصة وأستاذنا الزيات يراجع وجوه بروفات المطبعة .. ويقرأ المقالات والقصص .. ولم يكن قد استعان بعد بالأستاذ عباس خضر .. ولا الأستاذ فهمى عبد اللطيف ..
وقد تعلمنا من الزيات .. الصبر والمثابرة .. واتقان العمل .. ومجابهة كل الصعاب ..
وطلعت الآن من كبار المحامين فى مدينة الإسكندرية .. وفتحى مرسى .. من كبار أعضاء مجلس الشورى .. وأنا أذكرهما فى الكثير مما أكتب من ذكريات ( وإن ندر لقاؤنا فى هذه الأيام ) لارتباطهما معى بمجلة الرسالة التى شققت بها طريق حياتى الأدبية وتوسعت فى المجال وسهلت لى الطريق وشجعتنى على الترجمة أولا ثم التأليف ثانيا ..
وكان الدكتور " رمزى " آخر من يأتى إلى المقهى .. ويعتذر لبعد المسافة بين مصر الجديدة وقلب القاهرة ..
وظلت الصحبة هكذا .. إلى أن تفرق الجميع بعد الحرب العالمية الثانية كل ذهب إلى وجهته ..
وأصبحت أنا والدكتور رمزى فى ضاحية واحدة .. فظل الاتصـال بيننا على حاله ..
وكنت أذهب للعلاج أو لأسمع رأيه فيما أنشر من قصص .. وكنت أعتز برأيه وأفخر به لأنه كان ناقدا دقيق الملاحظة ملهما واسع الاطلاع على كل تطورات الأدب وفنونه ..
وكبر سنه كما كبرت ووهن العظم منـا .. وأصبح يشكو من المرض .. كما أشكو .. فانقطع عن قيـادة سـيارته وأصبح يركب المترو .. إلى مكتبه فى الظاهر .. ويعمل فى العيادة .. صباحا فقط ولأنه أعزب .. فقد كان يتغدى فى العيادة قبل أن يذهب إلى البيت .. وكان يأتى له بالطعام غلام المطعم ..
وكان غلام المطعم يحمل صينية الطعام ويدخل من باب العيادة الذى يظل على الدوام مفتوحا .. لأن التمرجى روح .. فاما أن يجد الطبيب نائما على كرسيه بعد تعب العمل .. أو يجده صاحيا .. فيضع الصينية على المائدة .. ثم يعود ليأخذها فارغة ..
ولكثرة تردد الغلام على العيادة لاحظ كل شىء فيها .. لاحظ الدولاب الكبير فى غرفة الكشف الممتلىء بالأوراق والأدوية ..
كما لاحظ أن هذا الدولاب يظل على الدوام مفتوحا بمصراعيه .. إما لأن المفصلات تلفت أو لأن الطبيب لايريد أن يتعب نفسه فى كل مرة بالفتح والغلق ..
وذات مرة فتح عينيه مندهشا ومرعوبا وهو يرى الطبيب يضع فى هذا الدولاب لفة كبيرة من الأوراق المالية مطوية فى جريدة .. وظل وهو يذهب بصينية الطعام ويجىء يفكر فى هـذه اللفة من الأوراق المالية .. ويفكر بجنون حتى أصبح يدخل العيادة حابسا أقدامه كأنه طيف أو شبح .. ولا يرى أمام باصرته إلا هذه اللفة .. هذه اللفة تدور وتصرخ وتناديه .. خذها وأجر ..
ورسم له الشيطان الطريق ببراعة .. فعندما دخل وجد الطبيب نائما والسكون يخيم والصمت صمت القبور ..
وتحرك سريعا وفعل فعلته .. وجاءت القصة .. خير قصة ..
جاءت قصة " المهاجر " أحسن قصة .. لأنه اجتمع فيها مع الواقعية الصدق .. كما أنها مرت سريعة وهادئة وخلت تماما من كل افتعال ..


====================================
* نشرت قصة القصة فى مجلة القصة ـ العدد 42 ـ اكتوبر 1984
* نشرت قصة " المهاجر " فى صحيفة مايو 20/7/1981 وأعيد نشرها فى كتاب " السكاكين "
====================================

ليست هناك تعليقات: