الأحد، ٧ أكتوبر ٢٠٠٧

الأديب الكبير محمود البدوى ـ أجرى الحوار الكاتب والصحفى عزت معوض

الأديب الكبير محمود البدوى يتكلم بعد طول صمت
:
* النقاد ووسائل الاعلام تجاهلونى عن عمد وقصد ..!
* قصتى " رجل على الطريق " سرقتها السينما .. وتحولت إلى فيلم " زوجتى والكلب " وحكم لى القضاء بألف جنيه تعويض .. ولم أنفذ الحكم ..!!
* حققت فى الأدب ماسوف يعيش ماعاش الأدب العربى ..
*النقد الآن .. عبارة عن مجاملات شخصية وسطور صحفية
***

أجرى الحوار الكاتب والصحفى : عزت معوض
عنـــوان الدوريـــة : مجلة الكواكب
رقــم العـــــــــــــدد : 1791
تاريخ النشــــــر : 26 نوفمبر 1985


كان لابد أن أذهب إليه وأتحدث معه .. حتى لاتظل أصابع الاتهام تطاردنا .. بأننا نحمل مجلدا ضخما من النكران والجحود وعدم الوفاء للذين قد أعطوا بنبل وسماحة وبلا ضجيج ـ كل ما يملكونه ـ ثراء القيم ونبل الأحاسيس ..
وهذا الأديب الكبير المبدع " محمود البدوى " والذى يعتبر " أبو القصة القصيرة " فى العالم العربى كله ـ وأول من شق طريقها وبذر بذورها فى وطننا .. وظل فى محرابها يتأمل ويجود بعيدا عن كل المزايدات إلا ضميره الانسانى .. بعيدا عن كل اثارة أو ابهار إلا ايضاح المعانى الجميلة .. بعيدا عن استعراض العضلات الفنية .. أو التقنية الايديولوجية المدعاة بالتقدمية .. إلا أنه جعل خيوط نسيج قصصه تتحرك فى دنيا مشبعة بالتنفس الانسانى .. نحو الرقى والتقدم وبشير خير يهدم كل محاور الشر والظلام .. كتب المئات من القصص .. ورسم المئات من الشخصيات فى تفرد شديد .. القصة عنده تحمل كل المعانى .. والمعانى عنده حية متتابعة .. تهتم بكل ما يطرأ على الشخصية من أحداث ومتغيرات ..
دائما يقول : الاهتمام بالنفس يلغى الاهتمام بالآخرين .. وأبرز فى احدى قصصه سطوة الظلم وأثره على الناس .. فقال :
" الاحساس بالظلم يجر إلى الخبل وما هو شر منه .. ويدفع إلى التمرد والضياع .. وتحت عذاب البشرية من شبح القنابل النووية وقنابل الكوبالت .. ظهر " الهيبز " وخطف الطائرات ، وظهرت الدعارة والرقيق الأبيض ، وظهر التفسخ وهوس النساء " ..
أى لون من الظلم قد أوقعناه بهذا الأديب الكبير الذى كتب 400 قصة قصيرة .. ضمتهم 20 مجموعة قصصية أو أكثر .. بداية من " الرحيل " فى عام 1934 .. و " فندق الدانوب " و " الذئاب الجائعة " و " العربة الأخيرة " و " حدث ذات ليلة " و " الأعرج فى الميناء " و " زوجة الصياد " و " مساء الخميس " و " الباب الآخر " و " صورة فى الجدار " و " الظرف المغلق " و " الجمال الحزين " و " الزلة الأولى " و " غرفة على السطح " و " حارس البستان " إلى آخر هذه القائمة الطويلة من الأعمال الابداعية .. ورغم أنه قد بلغ السابعة والسبعين من العمر ، إلا أنه لم يتوقف عن العطاء .. فآخر عمل له " الغزال فى المصيدة " عام 1981 ..
ورغم أنه نال شهادة الجدارة عام 1978 فى عيد الفن .. فهل هذا يكفى ..؟
والشىء العجيب والمريب ويدعو إلى الحيرة .. لماذا لم تتعامل السينما مع قصصه ..؟ وخاصة بعد أن لطش أحد المخرجين قصة لهذا الأديب الكبير ونسبها إلى نفسه ونال عنها أكبر الجوائز هو وأبطال الفيلم .. وتجاهل حق هذا الأديب الكبير ..!!
ولماذا لم تتعامل الاذاعة معه ..؟ والتليفزيون الذى قدم له عملا بعد أن حذف منه الكثير .. وهذا العمل قدم على استحياء ..!!
ومصيبة المصائب .. لماذا صمت الأدباء والنقاد عن التعليق على أدب هذا الأديب الكبير ..؟
ولماذا شاركت أجهزة الاعلام كلها فى صنع هذا الصمت ..؟! هل هذا " جزاء سنمار " ..! أى شىء يدعونا إلى القهر والكبت والتجاهل لكل الملكات الابداعية ..!
أقول لكم الصدق ، عندما كنت أبحث عن عنوان أو رقم تليفون الأديب المبدع .. اكتشفت ويا خيبة ما اكتشفت .. اكتشفت كأننى كنت أبحث عن القارة المجهولة ـ أو المستحيلات الثلاثة ، الغول والعنقاء والخل الوفى .. الكل استغرب سؤالى .. وكأننى كنت أسأل عن ابرة فى كومة تراب .. لا أديب كبير مبدع ـ ويعتبره الذين يفهمون أنه " تشيكوف " العرب ..
ماذا أصابنا بحق الله ..؟ كيف نسمح بالعذاب أن يتسرب إلى قلوب وعقول الأدباء الشرفاء الذين أخلصوا لبلدهم .. فأعطوا .. وأعطوا .. هل يكون النسيان هو الصفة الغالبة ..؟!
فكم كان رده علىَّ فى التليفون موجعا ومؤلما عندما قال :
ـ لا أجد سببا لأن تهتم بى الصحافة المصرية الآن .. أين كنتم طوال هذا الزمن .. ومن الذى فكركم بي .. بعد أن كتبت عنى الجرائد العربية وأشبعتنى كتابة .. جئتم تبحثون عنى .. أين كنتم طوال هذا الوقت ..؟ وماذا صنعت فى حقكم وفى حق وطنى حتى يكون هذا الصمت والتجاهل ..؟
قلت له :
* معك حق فى كل ما تقوله .. لكن أتمنى أن القاك ..
وبرحابة صدر ، رحب الأديب الكبير " محمود البدوى " ..
وعندما قابلته فى شقته بمصر الجديدة ، ذهب من فوره إلى مكتبته وجاء بمجلدين :
واحد باللغة الإنجليزية والآخر بالفرنسية وبعض الجرائد والمجلات الأجنبية .. وقال لى :
ـ أنظر .. هذا المجلد يتحدث عن الأدباء فى الوطن العربى .. كتبت عن العقاد وطه حسين والمازنى ومحمود تيمور ومحمود البدوى ـ لا يوجد نسخة فى مصر منه لولا صديق لى قد جاء به إلىَّ من بلجيكا .. والمجلد الآخر يتناول الأدب بصفة خاصة فى مصر .. أنظر انهم كتبوا عنى كثيرا .. قيموا أعمالى .. ترجموا قصصى .. أين أنا من أهلى ..؟ أين أنا من بلدى ..؟ّ ومهما يكن فاننى دائما أقول :
بلادى وإن جارت علىَّ عزيزة وأهلى وإن ضنوا علىَّ كرام ..
اخترت هذا الطريق لنفسى .. رغم ما فيه من متاعب ومشقة لا أحب أن أغيره .. أشعر بعد كتابة القصة براحة وجدانية لا مثيل لها .. رغم ما لاقيته فى حياتى من صعاب ومشقة بسبب الأدب والتفرغ للقصة .. فأنا أشعر فى أعماق نفسى بالرضا والقناعة .. لم أفكر إطلاقا وأنا أكتب لا فى خلود ولا فى ذكرى ولا فى أى شىء من أحلام اليقظة .. لكن أعتبر أننى حققت بجهدى المتواضع شيئا .. لا بد أن يعيش ما عاش الأدب فى محيطنا العربى .. والشىء الذى يسعدنى أكثر .. أنه رغم أن كل وسائل الإعلام أغفلتنى عن عمد وقصد .. وكل النقاد الذين تخصصوا فى هذا النوع من النقد .. رغم أنهم أغفلونى عن عمد .. وأن بعض المحررين فى الصفحة عندما كان يرد اسمى على لسان غيرى كقصاص كانوا يحذفونه .. رغم كل هذا فإنى وكما قلت حققت لنفسى ما سيعيش ما عاش الأدب فى الساحة العربية .. ليس كل الكتب .. ولكن القليل من هذه الكتب يكفينى .. كما يكفى " دستويفسكى " أنه كتب " الجريمة والعقاب " و " تشيكوف " أنه كتب " بستان الكرز " .. و" الجاحظ " أنه كتب " البخلاء " و" ابن المقفع " أنه كتب " كليلة ودمنة " و" الأصفهانى " أنه كتب " الأغانى " .. كل هذه الكتب فيها الصدق والحياة .. وبالحياة والصدق عاشت ..
حاولت أن أخفف عنه وطأة كل هذه الأحزان .. وكل هذا العذاب النفسى .. والاغتراب الفكرى .. جعلت هذا الحوار هو الوسيلة .. ولذلك طرحت عليه هذا السؤال :
* ما رأيك فيما يقال أن الثورة وما بعدها لم تنتج ثقافة ، وإنما عاشت على ثقافة الأربعينات ..؟
ـ الثورة فى شهورها الأولى أو السنة الأولى أو الثانية أو الثالثة .. لاشك أنها فكرت بجدية فى العناية بالثقافة .. وأكبر دليل على ذلك إنشائها المجلس الأعلى للفنون والآداب .. وتوسعت بعد ذلك فى قصور الثقافة الجماهيرية فى المحافظات .. لكنها شغلت بعد ذلك بالشىء المضاد وبألاعيب المستفيدين والمنتهزين لها كحكم شمولى ..
وخلاصة هذا الكلام أن الثورة بدأت بداية طيبة مع الأدب والثقافة .. ثم انتكست ..!!
وإذا نظرنا إلى ماهية الثقافة .. عبارة عن كتب .. وعبارة عن محاضرات لها قيمة .. وعبارة عن فنون مسرحية وعناية بالموسيقى .. وتطوير الحياة فى أذهان الناس إلى تفتح وتقبل هذه الثقافة ..
ليس من المعقول أن أعمل مكتبة فى محافظة وأفتحها الساعة 12 .. المكاتب الثقافية فى المحافظات كثير منها مغلق ، وقليل منها هو الذى يقوم بعمله على الوجه المرضى ..!!
فلا شك أن ظل الثقافة تقلص بالتدريج .. وأصبح من السهل أن تقول أن الثقافة التى كانت موجودة فى الثلاثينات والأربعينات كانت ثقافة مزدهرة .. وهى السبب فى وجود المنفلوطى والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد لطفى السيد .. وهذه الثقافة كانت مزدهرة نتيجة العناية الجدية المطلقة بالكتاب ..
أضرب لك مثلا فى حصة الهندسة بمدرسة السعيدية دخل المعاون ووزع علينا مسرحيات شوقى .. ومثل هذا كان موجودًا فى كل المدارس من الابتدائية والثانوية والجامعات .. كل كان به مكتبة ضخمة تضم كل الكتب والمراجع العلمية والأدبية ..
والمدرسون فى ذلك الوقت حبهم للأدب واضح والاطلاع والقراءة مستمرة .. وكانوا يضربون لنا المثل بشعر " شوقى " .. ونكت" المازنى " وفكاهاته وسخريته المطلقة .. وبعضهم كان يحب " مصطفى صادق الرافعى " لأسلوبه البليغ إلى درجة التمجيد .. وليس هذا أستاذ أدب أو عربى .. ولكن يقطع الدراسة فى حصة الجغرافيا والطبيعة .. ويحدثنا عن خبر لهؤلاء الأعلام ..
ثم كيف تنكر شخصا " كسعد زغلول " عندما يهديه " الرافعى " كتابا له ، فيقول عنه " انه تنزيل من التنزيل .. سعد زغلول العظيم الذى كان اسمه يدوى فى مشارق الأرض ومغاربها يقول عن أديب وأدبه أنه " تنزيل من التنزيل " ..
* أفهم من ذلك أنه كان هناك عناية وتشجيع على جميع المستويات للثقافة والأدب ..؟
ـ نعم .. كانت هناك العناية الجدية بالنقد ..فعندما يكتب " توفيق الحكيم " أهل الكهف .. يكتب عنه " طه حسين " و" مصطفى عبد الرازق " و" العقاد " و" المازنى " و" زكى مبارك " .. وكان فى جريدة البلاغ مخصص للنقد "المازنى" وفى "كوكب الشرق" زكى مبارك .. فأين ما يكتب الآن عن كتاب للمشهورين الذين مد الله فى عمرهم مثل توفيق الحكيم مثلا ..!!
لاتجد كلمة واحدة يتناولها أديب دارس .. وانما هى عبارة عن مجاملات شخصية .. وسطور صحفية لا تعبر إلا عن روح المجاملة البحتة .. وليس فيها أى ظل من التقييم أو التقدير ..
وعلى ما أذكر وأتذكر أنه كان فى جريدة " البلاغ " مخصص للنقد " المازنى " وفى " كوكب الشرق " "زكى مبارك " .. وكان فى الأهرام أحيانا ينتقد الشعر " أنطون الجميل " نفسه ..
* ما هو تفسيرك لهذا عندما كان الإنجليز والقصر والاقطاع يتحكمون فى الشعب ويعطلون قدراته ، كان الناس يبحثون عن الثقافة بمثل هذا الشغف ، وعندما جاءت الثورة لتحرر الإنسان وكما قيل نال حريته ، فتراجعت الثقافة وانتكست وأصابها التدهور ..؟
ـ الثورة أحيطت بنفر قوى جدا من المنتفعين .. والمنتفع دائما يحب أن يتحرك فى الظلام .. فأول شىء يقاومه .. هو الشخص المتنور والمتعلم الذى يأتيه هذا من الثقافة ..
هو يعيش فى الظلام ليتضخم ويزداد انتفاعه .. والشعارات التى يرفعها تدخل فى عقول الجهلاء والبلهاء .. عمر ما كان المثقف يقبل هذه الشعارات ويهضمها .. فهى موجة طبيعية لطمس النور من عقول الناس .. ليقبل هزيمة 1967 ونسميها له نكسة .. هذه هزيمة .. هزيمة .. والجيش لم يحارب .. والتفكك وسوء الإدارة كانا واضحين لكل من له دراية بفنون الحرب .. فكيف تقول هذا نكسة ..؟! وكيف يتقبل ذلك إلا من كان مطموس العقل ..
فموجة حب الأدب أيام الاستعمار الإنجليزى لم يستطيعوا مقاومتها ، كانت أكبر وأقوى منهم وصراع الفكر رهيب ..
الفرق واضح جدا ، لم يستطع الاستعمار بكل جبروته أن يطمس روح الأدب وفنونه من أذهان الشعب .. لأن هذا كان فى صميم القلب
.. أماالمنتفعون والإنتهازيون للثورة استطاعوا ذلك !!
* عبر رحلتك الطويلة والممتدة ، كيف ترى أديب الأمس واليوم ..؟ وكيف ترى فنان الأمس واليوم ..؟ وكيف ترى موسيقى وغناء الأمس واليوم ..؟
ـ أديب الأمس ولظروف الحياة المادية نفسها فى ذلك الوقت .. كان روحيا ومخلصا للأدب .. وروحه متشربه لحبه إلى درجة التضحية ..
أنا شخصيا وجدت " الزيات " كان يعطى لكبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و" طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة ..
وأظن أن هذا تطور الآن إلى درجة أن الشبان الصغار يأخذون من 20 جنيها إلى 100 جنيه ثمنا للمقال والقصة .. صحيح أن الحياة تطورت بماديتها .. ويمكن أن الخمس جنيهات تساوى الآن المائة جنيه أو أكثر .. لكن هذا هو ما حدث .. فالخمس جنيهات هى الخمس جنيهات ، وليست مائة أو خمسمائة جنيه .. فرسمها هو الخمس جنيهات ..
وروح التضحية برزت واضحة فى لجنة التأليف والترجمة والنشر .. كانوا فى حارة " الهدارة " فى عابدين .. فى بناء متهالك .. يخرجون ويطبعون مجلة الثقافة متكاملة طباعة وفنا أدبيا ، ويأتيهم نظير هذا العمل أى ربح مادى يوزع عليهم .. بل كانت التضحية متضامنة .. وروح حب الأدب للأدب كان متغلغلا فى كل نفس تكتب فى هذه المجلة ..
فهل يمكن أن يحدث مثل هذا الآن فى نفوس الكتاب والأدباء المعاصرين ..؟ قطعا لا .. !! ولم تكن هناك فى ذلك الوقت وسائل اعلامية أخرى .. كالسينما والتليفزيون .. تعين الأديب على تقبل التضحية التى أوضحناها فى الجو الأدبى الخالص ..
كانت هناك مجلة للشيخ " البرقوقى " اسمها " الأديب " هذا الرجل كان يخرج المجلة وحده على نفقته الخاصة .. وكانت من أبرز وأحسن المجلات فى ذلك الوقت .. جمعت " المازنى " و" العقاد " و " صادق الرافعى " و" زكى مبارك " .. وهذا الشخص يعبر بشخصه ومجلته عن التضحية الكبرى التى لا مثيل لها للأدب البحت الخالص ..
أديب اليوم لا يقرأ
أما جيل اليوم من الأدباء .. لا يقرأون مثل من ذكرنا من الأدباء السالفين .. فتسعة أعشارهم لا يعرفون أدب التراث .. ولم يفتحوا فى حياتهم سطرا " للأغانى " للأصفهانى أو " صبح الأعشى " أو " عيون الأخبار " أو حتى " كليلة ودمنة " أو " الأمالى " ولا يمكن أن يخرج أديب ممسكا بالقلم ما لم يقرأ بعض هذه الكتب ..
والقراءة الأدبية معدومة .. قل منهم من يجيد الإنجليزية والفرنسية لضعف هذه اللغات فى المدارس والجامعات بعد خروج الإنجليز من التدريس والفرنسيين والألمان .. وهم يقرأون لبعض وتجد صورة تكرار واضحة بوضوح مطلق .. يكررون بعضهم البعض .. ولكنى لا أنكر أنه يوجد منهم من طور الرواية والقصة .. ودرس بجهده الشخصى الكثير من الأدب العالمى واطلع عليه .. حبهم الطاغى للشهرة يجعلهم لا يتأنون فى كتاباتهم .. وليس عندهم الصبر للمداومة وتحمل المشقة التى يعانيها الفنان .. ويجرون بسرعة رهيبة إلى الحوادث الجارية فى الصحف .. كسقوط العمارات المشيدة حديثا .. والغش فى المواد الغذائية .. بمعنى يخلقون من الحوادث الجارية فى الصحف التى يكتبها تضخم فى أديب وتبرزه .. ومثل هذا أزمة المساكن وأزمة الطعام ..
ومثل هذه الأشياء لا يمكن أن تعيش إلا فى جوها .. أقصد القصص .. وعاش " شكسبير " ومازلنا نقرأ له وسنظل نقرأ له .. لأنه عالج الموضوعات الإنسانية البحتة .. الحب .. الكراهية .. والخيانة وطبع المرأة فى كل العصور .. فهذه الأشياء خالدة ، وستظل تقرأ عنها وتقرأ لكاتبها .. ومثله عاش " دستويفسكى " لأنه عالج الموضوعات الإنسانية البحتة .. عالج " الجريمة والعقاب " إلى درجة أنه قال " إن المجرم يعود إلى مكان الجريمة " وقد أصبحت هذه نظرية علمية فى علم الإجرام ، وعالجها الإيطالى " لا مبروزو " بعده بخمسين سنة .. فالأديب الشفاف يتنبأ دائمًا ..
المسئولية وضعف المستوى
* مسئولية من فى ضعف مستوى أديب اليوم ..؟
ـ مسئولية العصر كله .. عصر الصحافة التى لا توجه .. وتنشر بالصلات الشخصية .. قصة أو مسرحية أو رواية أو مقالة لا يستحقون النشر ..!!
* عن الموسيقى ..؟
ـ فيما يختص بالموسيقى .. أنا لا أسمع إلا الموسيقى الكلاسيكى .. " فاجنر " و " بيتهوفن " و " تشايكوفسكى " و " هاندل " ..
أما ما عندنا من الموسيقيين الآن والموسيقى .. فأحب أن أقول لهم بكل صراحة أنهم يستفيدون فائدة مطلقة وواضحة من هؤلاء الأفذاذ .. وعملية الخلق عندهم تكاد تكون معدومة .. وعندنا موسيقى واحد أنا أحبه لدرجة عميقة وهو " سيد درويش " وأكبر دليل على خلوده أنك لا تجد فى المناسبات الوطنية إلا موسيقاه ..
* من الأغانى ..؟
ـ قد أكون رجعيا فى تعبيرى هذا .. أنا لا أحب إلا " محمد عبد الوهاب " و " وديع الصافى " .. اتجاهى كله ـ منذ صغرى وأنا عمرى سبع سنوات ـ إلى القرآن الكريم .. وأعظم من أسمع له الشيخ " محمد رفعت " والشيخ " عبد العظيم زاهر " والشيخ " منصور الشامى الدمنهورى " ..
* ومن الممثلين ..؟
ـ أعجب بتمثيلهم وواقعيتهم الصرفة للحياة " محمود المليجى " و " اسماعيل ياسين " و " يوسف وهبى " و " فاطمة رشدى ..
الشخصية المهضومة
* الشخصيات عندك متفردة ، بل شديدة التفرد ، فما هى رؤيتك للشخصية المصرية ، وكيف نبنيها من خلال الفن والأدب ..؟
ـ أنا بأرسم وماشى على خط واحد .. أرسم دائما الشخصية المهضومة الحق .. المعذبة .. القدرية .. العاجزة عن التحرك ومواجهة صعاب الحياة .. حتى أسماء القصص تدل على هذا .. ويأتى هذا من معايشة طويلة وبحتة .. تغلغل فى النفس وتجد أنه لا مفر ولا متنفس لها إلا الخروج على الورق ..
والشخصية المصرية فى قصصى لم تتغير قط .. وهى دلالة طيبة على الطيبة ، إلى درجة البلاهة أحيانا ثم التمسك بالقيم ..
وفى كل قصصى أسعى إلى الحقيقة والجمال .. وأكره القبح فى كل مظاهره .. القبح فى الشكل .. القبح فى الخلق .. القبح فى الطباع .. وليست هناك مبالغة أن كل أنثى فى قصصى فهى جميلة أولاً .. ولا أكون مغرورًا إذا قلت لك أننى أحببت القصة القصيرة وطورتها .. فالزمن الذى كان يستغرق القصة فى بداية حياتى من يومين إلى ثلاثة ، أصبح يستغرق ساعة أو ساعتين ، وكذلك الأشخاص فى القصة ، فبعد أن كانت أربعة أو خمسة أشخاص ، تقوم على شخص أو شخصين .. وأنا أركز على الشخص الواحد لأبرز للقارئ جميع طباعه، وليكون أسهل عند القارئ للفهم . ولا أنكر عنصر التشويق فى قصصى وبعض الأحيان الإثارة .
فالقصة قصة وليست مقالا .. ويجب إذا كانت حية ولها روح أن تجذبك من سطورها الأولى ..
فالفن الحقيقى الخالد هو الذى يعيش على مر الزمن .. لماذا نقرأ التراث الآن ونقرأه بشغف ، لأنه يعبر بصدق واخلاص عن صورة من حياتنا من تلك الحقبة من الزمان ..
*رغم المئات من القصص ، والمئات من الشخصيات التى رسمتها وقدمتها ، إلا أن الأضواء تبدو عازفا عنها ، فما هو سر هذا الصمت المريب تجاه أعمالك وتاريخك الأدبى والابداعى ..؟
ـ أولا .. مسألة سهلة جدا .. أنا شخص منطوى على نفسى وخجول .. وليس لى أى اتصالات شخصية ..
أتحرك وحدى دائما فى جميع المواقع .. وهذا أكبر دليل على عدم ظهور شىء لى فى الاذاعة أوالتليفزيون .. لأن هذا واضح من جو الشللية والاتصال الشخصى .. وقد أخرجت لى قصة " القرية الآمنة " .. بمحض الصدفة البحتة ، أن مخرجا شابا فى التليفزيون اسمه " حسن موسى " قرأها فى أخبار اليوم وأراد أن يخرجها بصورة مرئية .. والسينما بالطبع أنا بعيد عنها كل البعد ..
سرقة قصة زوجتى والكلب
* لماذا رغم أن هناك مخرجا يقال أنه سرق منك قصة " زوجتى والكلب " ونسبها لنفسه .. ما هى صحة حكاية هذه الواقعة ..؟
ـ اسم القصة الحقيقى .. " رجل على الطريق " .. وبداية معرفتى بالواقعة أنا لى صديق عزيز هو الأستاذ " عاشور عليش " نسيب المصور الكبير " عبد العزيز فهمى " .. وعاشور عليش صديق قديم يقرأ كل كتبى وقصصى .. فواضح أنه أعطى الكتاب الذى فيه القصة للأستاذ عبد العزيز فهمى .. وعبد العزيز فهمى كان يتعامل مع " سعيد مرزوق " ويحبه .. أنا أضمن أنه حكى له القصة ، وأراد هذا أن يخرجها ويغير الاسم ويغير بعض الأشياء القليلة التى لا تغير صلب القصة ..
رأيت هذا الفيلم فى سينما " مترو " بمحض الصدفة .. وسمعت إشاعات من كل الناس ان هذه القصة مسروقة من " رجل على الطريق " .. فأخذت محاميا قريبا لى اسمه " شوكت التونى " وذهبنا إلى سينما مترو وشاهدنا الفيلم .. وقال لى " ان القصة هى قصتك مائة فى المائة " ..
*ما هو الاجراء الذى اتخذته بالنسبة لهذه الواقعة ..؟
ـ رفع الأستاذ شوكت التونى دعوى على مؤسسة السينما وعلى المخرج .. حكم القاضى لى بتعويض " ألف جنيه " .. كنت أتمنى أن يكون هذا الحكم على مؤسسة السينما .. لكن الحكم جاء على الأستاذ " سعيد مرزوق " وحده .. شعرت بالقرف ولم أنفذ الحكم .. والدعوى كانت برقم 70987 لسنة 1972 كلى شمال دائرة " 2 " محكمة شمال القاهرة الابتدائية .. والحكم صدر بالجلسة المدنية فى المحكمة فى يوم الاثنين الموافق 17/2/1975 ..
* هل عادت اليك حقوقك الأدبية ..؟
ـ لا .. لا .. أبدا .. أنا قرفت بمجرد عدم الحكم على المؤسسة وهى المسئولة الأولى مائة فى المائة .. لأنها هى التى صرفت عليها وطلعتها .. فكان الأجدر بها فى ذلك الوقت أن تعيد إلى كافة حقوقى المادية والأدبية بمنطق الأخلاق والنزاهة ..
وأما عن صمت النقاد .. ربما نقاد الجامعات لا يجدون فى قصصى المنهج الذى فى دماغهم سواء الرومانسية .. أو الواقعية .. أو البنيوية .. كل هذه المذاهب لا تدور فى رأسى وأنا أكتب القصة " .
الإنسان والموجة ..؟
كتبت تقول " الكتابة رسالة .. وإذا كنا نحلم بأحلام اليقظة ونقول أن الأديب رسول ، وعليه رسالة كرسالة الأنبياء ، إلا أن هذا كله بالطبع فى واقع الحياة عبارة عن حلم " ..
* ماهى الدوافع وراء هذا القول وهل الكتابة فقدت قيمتها ورسالتها ، ومن الذى أفقدها هذه القيمة ..؟
ـ النظام نفسه .. جنازة " محمود تيمور " كان فيها ستون واحدا .. لكن يموت أى واحد سياسى .. أو أى واحد داخل فى التشكيل تجد كل الوزراء والحاشية والطبول .. مات " عبد الحليم حافظ " الدنيا انقلبت .. " أم كلثوم " يريدون خطف نعشها ..
مات الأستاذ " محمد كامل حسين " صاحب " القرية الظالمة " مشى فى جنازته 5 أفراد .. حتى السلطة نفسها تضخم فى أديب وتبرزه .. مغنواتى بتيرزه .. وقاص بتبرزه .. لاعب كرة بتبرزه ..!!
الشعب راكب هذه الموجة من سنين .. فأصبحت ممارستها عليه سهلة ، انه لا يتعود شيئا جديدا .. وهذه موجة سهلة دخلت فى طباعه السلوكية ..
وينتهى الحوار مع " تشيكوف " القصة القصيرة المصرية والعربية ..
وإذا كانت بعض الأقلام قد تجاهلته عن عمد ، وبعض أجهزة الاعلام قد قررت نسيانه ، ومنحت بعض البكاشين والمرتزقة دورا أكبر من أدوارهم وحجما أعظم من أحجامهم ..
إلا أن الأديب " محمود البدوى " سوف يأتى اليوم الذى يجد فيه ناقدا منصفا ليعيد اكتشافه من جديد .. عند ذلك تبرز القيمة الحقيقية لأدب هذا الأديب العملاق ورحلة كفاحه من أجل الكلمة الشريفة النظيفة الراقية ..
وإذا كنا نهمل الذين يمدون لنا جسور العلم والمعرفة عن عمد وقصد .. أذكر كل هؤلاء القتلة لكل رأى مستنير وضمير يقظ .. عندما سئل " تشرشل " أيهما يفضل أن يكسب الحرب وتخسر بريطانيا " شكسبير " أو يخسر الحرب ويعيش " شكسبير " ملكا لبريطانيا .. أسرع فى الاجابة دون تردد .. وقال :
تخسر بريطانيا الحرب ويعيش لها " شكسبير " لأن " شكسبير " خالد وعرف الناس ببريطانيا .. أما الحرب فيمكن أن نكسبها فى أى وقت .. هكذا تكون رؤيتنا للأدب وقيمة الأديب فى الحفاظ على ضمير الأمة ووعيها وثقافاتها ..



ليست هناك تعليقات: