الثلاثاء، ٩ أكتوبر ٢٠٠٧

أمين حسونه أول شهيد فى الحرب من الأدباء


(8)
ذكريات مطوية
أمين حسونة أول شهيد فى الحرب من الأدباء



التقيت بمحمود تيمور لأول مرة فى مقهى " رجينا " بشارع عماد الدين .. وهو المكان المختار للأدباء والفنانين وكان يجلس معه أمين حسونة وزكى طليمات .. وكنت أجلس مع صحبة من الأدباء الشبان فى زاوية من المقهى بالناحية الغربية ..

ومقهى " رجينا " يقع فى موقع جميل من الشارع على يمين المتجه إلى محطة مصر .. وقبل عمارات الخديو بخطوات قليلة .. وكان بديع التنسيق نظيفا تغطى موائده المفارش وتتخلل أركانه أصص الزهور ..

وكنا لا نتخلف عنه ليلة واحدة لجماله وطراوة هوائه وعلى الأخص فى الصيف فهو يستقبل الهواء من بحرى بسخاء ونعومة ..

وكانت الحركة الأدبية نشطة بل فى أوج نشاطها بما ينشر فى المجلات والصحف والكتب من فنون الأدب ..

***

وذات ليلة ونحن فى مجلسنا المعتاد بالمقهى .. رأيت إنسـانا أنيـق الملبس والمظهر يتحرك نحونا .. وقال طه عبد الباقى بسرور .. ينبهنا ..
ـ تيمور بك ..
ووقفنا وسلم علينا جميعا ..
وقال فى صوت هادئ واضح النبرات :
ـ أهنئك على كتابك " رجل " .. (وكنت قد أهديته له) ..
وأخص بالذكر قصة الأعمى .. أعجبتنى للغاية ..

وشكرناه ووقفنا بجانبه وكنا ثلاثة أكثر من دقيقتين نتحدث فى مجال الأدب .. ثم بارحنا ورجع إلى مكانه ..

وسألت طه فى استغراب :
ـ الرجل النبيل تحرك من مكانه بكل شهرته الأدبية ومكانته ليحيى شابا صغيرا .. ما أنبل هذا وأعظمه ..

فقال طه معقبا :
ـ الرجل العظيم هو أكثر الناس تواضعا .. ولو رجعت لسير العظماء فى التاريخ ما وجدت هذا يخل بمقدار شعره..

***

وكانت فرقة فاطمة رشدى تقيم حفلات نهارية كثيرة للطلبة بتذاكر رخيصـة .. فكنــا نذهـب إليهـا ونخـرج منهـا إلى المقهى مباشرة ..

وبعد قليل يقبل تيمور ومعه أمين حسونه .. وكان تيمور يطلع على كل جريدة ومجلة تصدر فى مصر والشام والمهجر العربى .. وكان المهجر فى ذلك الوقت يصدر مجلات وصحفا عربية متعددة .. وجميع هذه ترسل لتيمور على عنوانه المعروف للجميع والذى كان يثبته فى آخر صفحات كتبه ..

وكان تيمور يتصفح هذه المجلات وهو جالس فى مكانه من المقهى .. فإذا نهض تركها لمن يريد الاطلاع عليها من صحابه وجلسائه .. وكان أمين حسونه يتوق إلى معرفة أخبار المستشرقين وأحوالهم ودراستهم وله ولع شديد بهم .. فكان يتلهف على الاطلاع على ما فى تلك المجلات ..

وتيمور إنسان مهذب رقيق الاحساس ومجامل إلى أقصى درجات المجاملة ..

وكتبه تسيل سيولة وعذوبة وقد وصف الحياة فى المجتمع المصرى بروح الفنان الملهم .. وكان محمد تيمور الأخ الأصغر قصير العـمر قليـل الإنتـاج .. أمـا هو فقد امتد به الأجل وكتب الكثير ..

ويقول عنه د . سيد حامد النساج كمؤرخ أدبى متمكن قد يتخصص أن أسلوب تيمور تغير بعد دخوله المجمع اللغوى 1955 كعضو عامل .. وأصبح يعنى بانتقاء الألفاظ .. وبعض هذه الألفاظ كانت نافرة وأفسدت جو القصة ..

وكان تيمور يقيم مآدب فى محل الجمال بشارع عدلى .. حفلات شاى لتلاميذه ومحبيه .. وقد حضرت حفلة واحدة منها ..

كما كان كثير الإهداء لكتبه .. يهدى بمجرد التعارف مع الشخص ومعرفة ميوله الأدبية ..

والكتب المهداة لا تقرأ .. ولكنه لم ينقطع عن هذه العادة التى تأصلت فى نفسه ..

وندر أن كنت ألقـاه وحده فى الطريق حتى وهو يتجول فى الشوارع .. يترك عربته بجوار جروبى أو الجمال .. ثم يخرج ليتجول .. وكنت أجد فى صحبته دائما .. أمين حسونة .. ثم فوزى سليمان .. وأخيرا رستم كيلانى .. وأصبح رستم كيلانى من أشد المعجبين به ومن أقرب تلاميذه ومريديه ..

كما رافقه فوزى سليمان مدة طويلة فى جولاته الأدبية وسهراته فى المسارح ..

وكان تيمور الإنسان المؤدب المهذب الواسع الشهرة يجعل الكثيرين يستريحون إلى صحبته ..

وقد صاحبه أمين حسونة مدة طويلة .. وكان من أكثر الناس التصاقا به واعجابا بأدبه ..

وكان أمين حسونة موظفا فى مصلحـة السكك الحديدية ومسرورا بوظيفته فى هذه المصلحة لأنها تجعله يركب قطارات السكة الحديد فى أقطار أوربا جميعا مجانا .. ( كما كان يقول ) ..

وأمين حسونة يحب السفر وبسبب حبه للسفر لقى حتفه فى طائرة حربية .. وكان أول شهيد فى الحرب من الأدباء ..

ولقد لقيته مصادفة فى مركب يعبر البحر المتوسط وكان معه فوج سياحى يتجه إلى المجر .. عن طريق الدانوب .. فسر لذلك كثيرا وأننى مع الفوج ، ولكننى صححت له الوضع وقلت له أنى ماسافرت فى حياتى مع فوج من الأفواج قط .. وأنا أتحرك وحدى لأشاهد الناس عن قرب وأعيش معهم .. وليس لأشاهد المعالم والآثار .. وهى مقصد شركات السياحة فى الأعم الغالب .. وقال لى حسونة أنه سيحرص على مقابلة فرويد بالنمسا فى هذه الرحلة .. وكان فرويد فى قمة شهرته لنظرياته الجديدة عن السلوك الجنسى والأحلام مع دعاية مركزة من الصهيونية العالمية لكل ما هو يهودى .. وقد تصدى له أدلير وبونى فطمسا الكثير من نظرياته ..

وكان أمين حسونة يدخن " البيب " وندر أن تترك فمه ..

***

وعندما أنشئت جريدة الجمهورية .. وجدته ذات مساء .. جالسا فى الصــالة الكبـيرة المعــدة للمحررين وله مكتـب ، وفى فمه " البيب " .. وهكذا أصبح من محرريها ..

وكان له وله غريب بالمستشرقين ، وذات يوم طلب منى صورة .. وسألته :
ـ لمن ..؟
ـ للمستشرق المجرى جرمانوس ..
ـ وهل هو فى القاهرة الآن ..
ـ أبدا سأرسلها له بالبريد ..
وأعطيته صورة ونسيت الموضوع ..

ومرت سنوات .. والتقيت مصادفة بالأخ الكريم جبرائيل بقطر .. والذى ترجم لى عشرات القصص إلى الفرنسية .. وعلمت منه أنه مسافر إلى المجر .. فسألته :
ـ هل تستطيع مقابلة المستشرق المعروف جرمانوس ..؟
ـ أستطيع طبعا ..
ـ سمعت أنه ينوى عمل كتاب .. عبارة عن دراسة شاملة للأدب العربى .. فأرجو إن كان الكتاب قد صدر فعلا أن تأتينى بنسخة منه ..

***

وعاد .. جبرائيل بقطر من المجر وحمل لى نسخة من الكتاب فى أجمل طباعة .. وعليها توقيعات بالعربية من العقاد وتوفيق الحكيم وطه حسين ومحمود تيمور وباكثير .. وتصفحت مافى الكتاب من صور ، فأنا لاأعرف المجرية .. ووجدت به صورا للعقاد وتوفيق الحكيم .. وطه حسين .. وعبد الغنى حسن .. وتيمور .. ونجيب محفوظ .. والسحار .. وباكثير .. وصورة لى أنا أيضا ..
ومن الغريب أننى لم أجد صورة لحسونة فى هذا الكتاب ..

ومات حسونة المسكين .. وكتم خبر موته ، لأنه مات فى طائرة حربية .. ثم تسرب الخبر كما تسرب الأخبار الميتة .. بعد أن تكون قد فقدت كل قيمة لمضمونها ..

وكان أديب الإسكندرية نقولا يوسف يحب حسونة حبا جما .. وعلى صلة وثيقة به وبأسرته .. ولا أدرى أوفاه حقه كصديق .. أم غفل عن ذلك وطواهما الزمن معا ..

=================================
نشرت فى مجــلة الثـقافة ـ العــدد 88 ـ ينــاير 1981 وأعيد نشرها فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006

=================================


ليست هناك تعليقات: