الأحد، ٧ أكتوبر ٢٠٠٧

بعد ربع قرن من الإبداع والزهد ـ اجرى الحوار الصحفى والكاتب علاء عريبى

بعد ربع قرن من الابداع والزهد
محمود البدوى يتحدث

* لا أكتب للخلود ، ولا أحلم بالخلود ، ولا أحلم أحلام اليقظة بأننى سأخلد ..
* الجيل الجديد يقلد الموجة الجديدة ، موجة الغموض والتكسر ..
* لم أتعمد الاثارة أبدا ، الجنس شىء طبيعى فى الحياة ..
* أقرأ للجيل الجديد مجبرا بحكم عملى ..
* القصة القصيرة تغنينى عن الرواية ..
* بعدت عن السياسة لأنها تفسد الأدب ..
* طورت القصة كثيرا عن أستاذنا محمود تيمور ..
* تأثرت بمنهج تشيكوف وليس لى أساتذة عرب ..
* حتى الآن لا أعرف غفيرا ولا وزيرا فى هذا البلد ..
* أنا أكتب لأدفع شيئا رهيبا فى النفس ..!


أجرى الحوار الصحفى والكاتب : علاء عريبى
عنـــوان الدوريـــة : مجلة القاهرة
تاريخ النشــــــر : 14 يناير1986


إن الأديب أو الفنان الذى يعطى من دمه وحسه وفكره للقارىء أو المشاهد بإخلاص وصدق ورضا ، من الظلم ، كل الظلم ، أن نتجاهل موهبته وعطاءه إعلاميا ونقديا عن عمد جاحدين ، لكونه آثر الزهد فى حياء بفنه ، آبيا أن يسعى كالآخرين وراء الضوء ، الضوء الزائف ، ضوء مافيا الاعلام ، رافضا كل الرفض منطق الحزبية والشللية والمصالح النفعية ..
إن أديبنا القاص " محمود البدوى " 77عاما واحد من هؤلاء ، آثر الفن والصمت ، رفض فكرةالعلافات ، رفض التمذهب فى الأدب ، جاء منذ نصف قرن من قرية الاكراد مسقط رأسه ، مركز أبنوب بأسيوط ، إلى القاهرة .. قاهرة المبدع والعالم ، حاملا حسه وفكره وقلمه ، مدافعا بها عن الانسان المقهور والمضطهد ، كاشفا بصدق وأمانة المبدع الحقيقى عن احساسه ، فيما يقرب من ثلاثمائة قصة قصيرة ، بدءا من " الرحيل " 1935 وعمره لا يتعدى العشرين ربيعا ، حتى " السكاكين " 1985 وهو فى السابعة والسبعين .. وفيا كل الوفاء لفنه ، القصة القصيرة ، فنه الوحيد ، دون أن تلتفت إليه يد البحث فى الجامعة ، أو رؤية نقدية بكتاب ، أو حتى الضوء الزائف .. ضوء الاعلام ..
ـ أنا أحس بالمرارة ، لا أستطيع أن أتكلم ، ولا أستطيع أن أكتم ، فأنا منذ أكثر من خمسين عاما ، لم يتناولنى ناقد كبير ولا صغير ، ولا أجرى أحد معى حديثا كما يجرون مع كل الكتاب الذين يكتبون القصة والرواية ، وأحب أن أوضح لك أن اسمى كان يحذف عمدا وباصرار ، عندما يرد ذكره مع أحد الأدباء أو أحد النقاد بواسطة من يقومون بنشره فى الصحف ، وهؤلاء لايزال بعضهم موجودا فى الجرائد الكبرى حتى يومنا هذا ..
* لهذه الدرجة يتعمدون التجاهل .. لماذا ..؟!
ـ شىء لا أفهمه ولا أعرفه ، ربما تكون الشللية ، أو التجمعات التى ظهرت أخيرا وأفسدت الأدب ، أو أن الشخص الذى ينشر يعتقد أن " محمود البدوى " لا قيمة له ، وأحب أن أصرح لك بأن الأستاذ يوسف القعيد قد أجرى حديثا معى ـ وهو الوحيد ـ منذ أكثر من سنة ، وقلت له :
" أنا لا أكتب للخلود ، ولا أحلم بالخلود ، ولا أحلم بأحلام اليقظة بأننى سأخلد ، أو سيكون لى قيمة بعد الموت أو قبل الموت .." وإنما أنا أكتب لأدفع شيئا رهيبا فى النفس ـ قد يكون هذا مرضا ـ هو شبح الخوف من شىء مجهول ..
* شىء مجهول ..!!
ـ نعم .. شىء مجهول ، لا أستطيع أن أوضحه بالكلام اطلاقا ، غير أنه جعلنى كثير السفر والرحيل ، شىء نفسى ، لأننى عندما أكتب القصة أستريح تماما ، وأشعر كأن كل أعصابى ، وكل جسمى ارتاح تماما ، خصوصا إذا أحببت البطل أو البطلة ، وعايشتهما وأخرجتهما على الورق كما عايشتهما ..
* بدأت حياتك الأدبية بالترجمة لموبسان وتشيكوف .. فما أثرهما على " الرحيل " وكتاباتك الأولى ..؟
ـ هذا حقيقى ، بدأت كمترجم فى مجلة " الرسالة " عند الزيات .. وأعتقد أن الجو الروسى والتشيكوفى على وجه التحديد ، يصور الحياة .. حياة الفلاح الروسى .. إذا نظرت له تجده تماما كالفلاح المصرى .. وبدون شك أنا تأثرت بالشكل والأشخاص والإيقاع عند تشيكوف ومنهجه فى القصة أيضا ..
* ولم تتأثر بالجيل السابق ..؟
ـ على الاطلاق ، ولم أتأثر يوما بكاتب مصرى أو عربى ، فأنا اتخذت من هؤلاء أساتذة لى ..
* هذا الشكل التشيكوفى الذى بدأت به .. تعتبر أول من أدخله فى الأدب المصرى ..؟
ـ لا أستطيع أن أقول هذا .. عن نفسى ، فقد طورت القصة كثيرا عن استاذنا " محمود تيمور " وهو أستاذ وله شهرته وأدبه ..
* الجيل الذى أتى بعدك .. هل تأثر بمنهجك الروسى ..؟
ـ لقد قالوا لى " أنهم يقرأون كتبى بانتظام " لكنهم لم يتأثروا ، لأن بعضهم دخل فى الموجة الجديدة ـ موجة الجيل الحالى ـ التى فيها الغموض .. والتكسر .. ت .. ك .. س .. ر ..
* التكسر ..؟!!
ـ نعم ، تقرأ ولا تفهم ، يلف لك فى الكتابة ..
* تقصد التعقيد فى الكتابة ..
ـ التعقيد .. التى فيها الجمل ذات الفواصل والنقط ، فواصل ونقط ، وهذا غير موجود فى الأدب الإنجليزى ، وإن كان موجودا فى فرنسا " ناتالى ساروت ، وآلن جرييه " أكبر كتاب فى فرنسا ، فركبا موجة اسمها الغموض ، لكنك إذا قرأتهما تفهم ، لكن لاتفهم الأدب المصرى ، فهو تقليد أعمى ..
* هل الغيطانى والقعيد وغيرهما ممن تتحدث عنهم ..؟
ـ لا .. هؤلاء مجيدون جدا ، خصوصا القعيد ، والغيطانى رغم أنه يسير على خط الدراسة والمملوكية ، خط الحسين ، منطقة نجيب محفوظ ، فهو متأثر جدا بنجيب .. وهما ليس من جيل التعقيد الذى للآن لم أفهم منه شيئا .. وأقرأه مضطرا بحكم عملى ..
* بمناسبة الدراسة والحسين .. لماذا لا نجد فى شخصياتك القصصية شخصيات من الأحياء الشعبية ..؟!
ـ أنا لا أكتب إلا ما أعايشه ، ففى فترة الدراسة لم يكن لى أهل بالقاهرة ، فنزلت فى كثير من " البنسيونات " وصورت الحياة فيها ، ففى هذا الوقت كان كل أصحاب " البنسيونات " أجانب .. واختلطت بمجموعة كبيرة جدا من البشر ، على اختلاف أشكالهم وألوانهم وجنسياتهم وطبائعهم ، وأعتقد أننى صورت هذا بقدر المستطاع ، وبقدر ما أملك ..
* تعنى أنك لا تكتب إلا عن شخصيات عاشرتها ورأيتها ..؟
ـ لابد ، فلا أكتب من فراغ .. سألونى مرة فقلت : " لا أكتب عن الإسكندرية وأنا لم أر البحر .." وإلا ستكون فانتازيا ، وتسقط ولا تجذب القارىء ..
* والتجارب التى تنقل إلينا من خلال الكتب ووسائل الاعلام وغيرها ، ألا تؤثر عليك بحيث تكتب عنها ..؟
ـ لا .. أنا لست صحافة .. أنا أكتب عن روح العصر .. لكنى لا أكتب عن تجار اللحوم الفاسدة .. أو المكرونة ، لا أكتب عن العمارات التى تبنى وتهدم على أصحابها ، أنا لا أتناول هذا الخط ..
* لماذا ..؟
ـ هذا عمل صحفى ، وربما يمكن للروائى أن يتناولها ، أما القصة القصيرة .. فلا ..
* الجنس فى قصصك سمة أساسية .. فكيف تعاملت معه ..؟
ـ هذا تجن .. فالمرأة والرجل يتحركان مع بعضهما ، فلم أتعمد الإثارة ، ولم أكتب عن الجنس كشىء مفرد ، إنه شىء طبيعى فى الحياة ، ولا يمكن أن تجد لى قصة فيها إثارة ، ثم انه جف فى المراحل الأخيرة من انتاجى ، وأنا أعالج مشاكل الحياة الآن ، والجنس كان سمة أساسية ، والآن توجد مشاكل أكبر وأعقد ، والخط الإنسانى الذى أسير عليه لم يتغير أبدا ، فأنا أدافع عن المظلوم والمضطهد والمقهور والذى لا يجد فى هذه الحياة حولا ولا قوة ..
التزمت من خمسين عاما " بالواقعية " وخلال هذه الفترة طرأ على القصة طفرات كبيرة من التغيير .. فلماذا لم تحاول أن تغير من اتجاهك لمواكبة هذا التطور ..؟
ـ أنا طورت القصة بما لا يخل بعنصر الفن فيها ، اختصرت الأشخاص من خمسة إلى اثنين ، والزمن من أيام إلى ساعة ، والحجم من عشرة فلوسكاب إلى ثلاثة فقط ، أليس هذا تغييرا ..
* يلاحظ القارىء أنك تستعمل ضمير المتكلم فى كثير من قصصك .. فهل لهذا مدلول فنى عندك ..؟
ـ إنه يريحنى فى الكتابة ، فأنا أكتب عن شخصياتى بعد أن أعايشها طويلا ، أفكر بطريقتها ، أنظر إلى واقع الحياة من نفس منظورها ، فمن الطبيعى أن يكون ضمير المتكلم أقرب الأدوات إلى الاستعمال ..
* ألا يؤثر هذا على فنية القصة حيث الإسهاب فى الوصف مثلا ..؟
ـ فى بعض القصص كان الوصف والإسهاب والاستطراد والشخصيات كثيرة مما أضعفها فنيا فتداركت هذا ولم أجمعها فى كتب واكتفيت بنشرها فى الجرائد ، والآن أحاول ألا أستطرد لا فى الوصف أو حتى فى وصف الشخصية والموجات الجديدة تقول إن القصة الحديثة تكفيها أن تصف المرأة مثلا بأنها جميلة ..
* ومن حيث التكنيك ..؟
ـ الدخول نفسه مباشر وفيه جذب ، وليس مقدمة ، التناول يكون فيه جذب يظهر روح القصة ، بحيث يجذب القارىء فلا يستطيع أن يتركها ..
والأفكار ..؟
ـ يوجد تطور الآن ، حياتنا فى مصر تتطور ، كان الفلاح قديما مضطهدا ، الآن الناس انتقلوا إلى المدينة وعاشوا فى المدينة ، وناس تجد العذاب فى المواصلات وأمام الجمعيات وعندما تدخل محكمة ، أو تعمل إجراء فى الشهر العقارى تقابل الويل ..
* اختيار الأسماء وبالتحديد " المكان " كان له عنصر أساسى فى قصصك لماذا ..؟
ـ لأننى لا أحضر شخصا من كفر الشيخ وأضعه فى محطة أسيوط ، أو محطة ديروت لابد أن يتناسب مع البيئة التى عاشها لكى تظهر صفاته ، وإلا ستسقط القصة ..
* الواقعية الانطباعية .. لماذا لم تتمرد على هذا المذهب ..؟
ـ أنا اتخذت خطا وأسير عليه ، وعندما أكتب قصة الآن فهى ليست كالقصة التى كتبتها عند الزيات عام 1933 وهذا الخط من الصعب جدا تغييره ..
* مفهوم القصة القصيرة عندك ..؟
ـ هى لمح إنسانى يجتمع فيها روح الجذب والكفاية الذاتية ، تقرأها وتكتفى بها كما تكتفى برواية طويلة ، أى أن القصة القصيرة إذا كتبتها بروحانية وجاذبية وخلقت منها شيئا حيا يتحرك فإنها تغنى عن الرواية ..
* يا أستاذ محمود تعتبر الوحيد الوحيد الذى أخلص للقصة القصيرة ولم يكتب رواية .. فلماذا ..؟
ـ لأن كل ما أستطيع أن أقدمه من أفكار قدمته فى القصة القصيرة ، وهى تغنينى عن كتابة الرواية ..
* ألم تحاول مجرد محاولة أن تكتب رواية ..؟
ـ أنا نفسى قصير ، والقصة القصيرة نشرها سهل ، وأستطيع أن أكتب منها الكثير ..
* وهل الرواية تحتاج إلى إمكانات ليست لدى القاص ..؟
ـ لا .. أبدا .. هى عبارة عن نفس وطابع ، وأنا نفسى قصير ..
* محمود البدوى ونصف قرن من الإبداع .. أين هو من الجوائز ..؟
ـ أخذت بكل سرور ، وبكل فخر جائزة الجدارة عام 1978 من أكاديمية الفنون ومن الغريب أننى حتى الآن لا أعرف غفيرا ولا وزيرا فى هذا البلد ، وعندما قرأت الخبر فى الجرائد لم أصدقة ، لأننى ليس لى أية اتصالات ..
* أفهم من هذا ، أن جوائز الدولة " تشجيعية وتقديرية " محايدة ..؟
ـ هى تمشى على الصراط المستقيم ، وليس فيها حياد ، لأنها بالتصويت ، فأنا عضو من أعضاء اللجان منذ أن انشئت ، فمن أين يأتى الحياد ..؟
* باعتبارك عضوا باللجان ، فمن فى رأيك يتربع على قمة القصة القصيرة الآن بمصر ..؟
ـ أنا لست ناقدا ..
* من هو الذى تقرأ قصصه ولا تترك قصة له ..؟
ـ غير موجود ..
* ما رأيك فى الخلط بين السياسة والأدب هذة الأيام ..؟
ـ السياسة شىء والأدب شىء ، إن هيمنجواى تطوع فى الحرب الأهلية بجسمه ونفسه ، فهل رجع وكتب ضد من حارب معهم .. أبدا فهو تطوع ليرى الحرب كفنان ، فلا هو أسبانى ولا أى علاقة له بالأسبان ، فقط ليرى الحرب ويزاولها بأظافره ..
وافترض معى أننى ضابط بالجيش أيام نكسة 67 وعائد من موقع ما فى الصحراء ، فشاهدت إسرائيليا فى النزع الأخير ينزف دمه ـ هل أطعنه بالسونكى أم أطلب له الإسعاف .. ؟ (موجها السؤال لى ) ..
أنا كنت عسكرى "بعكوك" وخدمت بعد كامب ديفيد ، فلا أعرف ..
ضاحكا .. الإسعاف طبعا فالمذهب لا يدخل فى الكتابة أبدًا ، فأنا بعدت عن السياسة لأنها تفسد الأدب ..
* فى نهاية حديثنا هذا ، ماذا يحب أستاذنا القاص محمود البدوى أن يقوله لينهى به حديثه ..؟ ولمن ..؟
ـ للجبل الجديد .. أقول :
عش الحياة أولا ثم أكتب ، وإن لم يكن عندك الالهام ، فلا تأخذ القصة بالدراسة أو القراءة لأنها لا تعلم ، بل هى موهبة تصقلها التجربة الحية ..

ليست هناك تعليقات: