الثلاثاء، ٩ أكتوبر ٢٠٠٧

الشيخ صالح الأديب وديستويفسكى العظيم

(10)
ذكريات مطوية
الشيخ صالح الأديب ودستويفسكى العظيم



كان الشيخ صالح أستاذنا فى اللغة العربية فى مدرسة أسيوط الابتدائية ، وكان هو الذى يعطينا حصة الدين .. وفى حصة اللغة كان شيئا عاديا ومألوفا كغيره من الأساتذة الذين يدرسون اللغة .. ولكنه كان فى حصة الدين شيئا آخر يختلف عن الآخرين ..

كان فى حصة الدين يقص علينا السير .. بأسلوب أخاذ فى استفاضة وتطويل .. وكنا ننصت إليه خاشعين لطريقته فى الشرح .. وهو يبسط ذراعيه ويضمها طبقا لمقتضى الحال ..

ومنه أخذنا نقرأ ونرجع فى شوق ولهفة إلى كل ما كان يشير إليه من هذه السير ..

***

وفى المدرسة السعيدية .. كانت توزع علينا .. ونحن فى الدرس .. وقد يكون درس هندسة .. الكتب الأدبية .. فى أجمل ثوب من الطباعة والتجليد .. مسرحـيات شـوقى .. أدب الدنيا والدين كليلة ودمنة .. المنتخب من أدب العرب .. قادة الفكر ..

وكان الشيخ شتا .. وهو شيخ مع لبسه البدلة .. يجعلنا ننتقد أساليب الكتاب المعاصرين .. وانتقدنا أسلوب طه حسين .. وأنه كثيرا ما يطيل حيث يتطلب الأمر الإيجاز ويكثر من المترادفات ويستعمل لفظة غليظ فى إسراف .. وتبسم الشيخ شتا .. وقال لنا إن لفظة غليظ موجودة فى القرآن " عذاب غليظ " فقلنا له إن الوصف فى القرآن هو أدق وأبلغ موضع .. ولكن الأمر يختلف مع طه حسين .. لذلك اللفظ ..

وكان الشيخ طموم يجعلنا .. نكثر من قراءة كليلة ودمنة حتى إننا من كثرة معاودتنا له حفظناه .. وما من كاتب فى الدنيا فى بلاغة ابن المقفع ..

وفى البكالوريا .. كانت مقررة علينا مسرحية بالإنجليزية .. نحـب حيـاة " إبراهام لنكولن " وقد وجدنا فيها ما حببنا إلى الرجل بصفاته العظيمة .. وأخذت أقارنه " بعمر ابن الخطاب " والقياس مع الفارق بالطبع .. فعمر قمة القيم فى المخلوقات البشرية بعد الأنبياء والرسل ..

ولكن خط حياتهما واحد .. عدل .. وصراحة .. ونظام .. وتقشف إلى درجة التصوف .. فى الحياة الخاصة .. ووقوف فى وجه الظلم .. واستضعاف الإنسان لأخيه الإنسان .. الفقير والضعيف عند عمر .. والعبيد فى الجنوب عند لنكولن ..

ثم موت كل منهما بالاغتيال .. خنجر هناك فى المسجد ورصاصة هنا فى المسرح ..

***

وفى دراسة قيمة عن الأسلوب بالجامعة المصرية فى أوائل مراحل تكوينها ، سألنا الأستاذ ولا داعى لذكر اسمه وقد نسيته .. لأنه كان يتملق طه حسـين .. وكان طه حسين وقتها عميدا لكلية الآداب بالجامعة ..

سألنـا الأستاذ بعد استعراضه لكلمة " بوفون " الخالدة .. " الأسلوب هو الكاتب " ..

سألنا عن أجمل الأساليب فى الكتاب المعاصرين .. وكانت الغالبية من الطلاب خارجة من معطف " المنفلوطى " وعباءة الزيات " فقلنا المنفلوطى والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى ..

وظهر على وجهه الامتعاض وهو يسأل :
ـ وطه حسين ..؟

فأجبنا .. بأننا لم نقرأ له بالدرجة التى تجعلنا نحكم على اسلوبه ..

وفى إجابتنا كل الصدق .. فقد كان المنفلوطى .. والزيات .. والمازنى .. والعقاد .. وصادق الرافعى .. هم بلغاء العصر فى نظرنا .. وأسلوبهم فى التعبير هو أجمل وأرق الأساليب ..

***

وبهذا التوهج والحب للكتاب والأدب .. انتقلنا من مرحلة الدراسة الابتدائية .. التى كانت المنبع لحب الكتاب إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق .. لنتزود بالمعرفة وتتسع الآفاق فى البحث والدراسة ..

فما الذى حدث للكتاب .. سحابة مظلمة زحفت عليه وكادت تحجبه عن العيون .. وكيـف تعيش أمة من غير أدب .. ومن غير كتاب .. ان الكتاب هو الزاد الروحى للأمة .. وهو الرئة التى تتحرك وتتنفس فى حياتها .. فكيف نمنع أمة من التنفس ..

منذ سنوات طويلة .. وضعت قيود متحكمة على جلبه وتصديره .. كأنه سلعة ممنوعة .. وحجبت عنا وانفصلنا عن كل روائع الابداع فى الأدب والقصة والفكر الإنسانى ، وقد خففت القيود الآن ونرجو أن تزال نهائيا ..

وقد حاول " بدر الدين أبو غازى " وكان فى موضع يتيح له التصرف رفع بعض هذه القيود .. ولكنه لم يوفق مع كل حسه الأدبى وتعاطفه كفنان ، لأن الضغط الروتينى الفوقى كان مستحكما ..

وازدهر الكتاب .. وعم الأسواق فى عهد " عبد القادر حاتم " لأنه أديب وبحسه الأدبى كان يتصرف كإنسان ويعرف قيمة الكتاب بالنسبة لأمة ناهضة .. قد تعثرت كثيرا فى حياتها بسبب الاستعمار .. وتريد الآن أن تسترد مكانتها كأمة عريقة ذات حضارة ..

ولو استعرضت حياتنا وتاريخنا .. لوجدت باليقين أن الإنسان الذى له ميول أدبية .. هو الذى يتسم بالصفات الإنسانية التى تسيطر على حياته .. ولا يستطيع مهما حاول أن يتخلص منها .. ولأن " أنور السادات " أديب قبل أن يكون حاكما .. اتجه إلى الأرامل .. وإلى معاش السادات .. اتجه إلى المستضعفين الذين لاحول لهم ولا قوة .. والذين فرغوا من تعب الحياة ..

اتجه إلى ذلك بقلبه وبلمسته الإنسانية .. لأنه يعرف معنى التعب والجوع ..

وقد يقول قائل ان ذلك من عمل الأجهزة المختصة ، فأقول له وأين كانت هذه الأجهزة عندما كانت تخصم ربع المعاش المستحق لهؤلاء المساكين وتجعله من حق الدولة ..!!

كما يقول قائل .. ان المعاشات تزاد تلقائيا طبقا لجدول مرسوم فى كل الدول المتحضرة .. السويد والنرويج .. وانجلترا .. و .. و .. وأقول له لسنا كهذه الدول فى كثير من الأمور ..

وان السادات هو أول من فكر فى هؤلاء الناس .. وبحسه الأدبى ولمسته الانسانية نفذ فكرته ..

وبالأدباء والفنانين .. عاشت الأمم وانتصرت على كل مظاهر التخلف ..

والأدباء هم الذين مهدوا للثورات الاجتماعية فى كل عصور التاريخ .. ورفعوا الظلم والاضطهاد عن الإنسان ..

فقد مهد الأدباء وكتاب الرواية والقصة فى مصر ، وغالبيتهم من طبقة الشعب لثورة 1919 وثورة يوليو 1952 .. مهدوا لثورة 1919 بما واجهوا به الاستعمار الإنجليزى فى كتاباتهم وشخصيات أبطالهم ، وألهبوا الحماس وغرسوا بذور المقاومة والنضال حتى اندلعت ثورة 1919 ..

كما أنهم بما صوروه من تسلط الاقطاع وبؤس حال الفلاح فى القرية والعامل فى المدينة .. وما يتعرض له كل واحد منهما من تمزق وضياع نتيجة للفساد .. قد مهدوا السبيل .. وهيئوا النفوس لثورة 1952 ..

وفى فرنسا مهد " فولتير " و " روسو " و "سواهى " للثورة الفرنسية وغير هؤلاء وجه المجتمع الفرنسى ، وكان تأثيرهم على أوربا عامة .. وانتصروا لخير الإنسان ..

ودافع " سارتر " مع تذبذبه بين العرب واليهود .. دافع عن الاستعمار الفرنسى فى الجزائر .. وكتب " عارنا فى الجزائر " ..

وكان لما صوره " دكنز " من قذارة فى حوارى لندن وأزقتها .. وبؤس الصبيان فى الملاجىء .. والفقر والضنك والتشرد الذى يعيش فيه الفقراء من الإنجليز فى الاحياء المظلمة من هذه المدينة ..

كان لما صوره دكنز الاشارة التى انطلقت لتغير وجه الحياة فى لندن وانجلترا كلها تغييرا تاما جذريا ..

كما صور " د . هـ . لورنس " حال عمال المناجم ..

ودعا إلى العودة إلى الطبيعة .. وإلى الهواء الطلق والنور ..

كما دعا " روسو " .. قبله .. وهاجم الصناعة بعنف التى تقتل فى الانسان روحه كبشر .. وتحيله إلى آلة صماء فى يد من يدير المصنع ..!

وفى أمريكا عالج " فولكنر " و " ارسكين كالدويل " و " جون اشتينبك " بؤس السود فى الجنوب وتعصب البيض وما يحيق بالنساء السود من عذاب واغتصاب ..

وعالج " همنجواى " مآسى الحرب وما تجره على الإنسانية من ويلات واشترك فيها بلحمه ودمه ..

اشترك فى الحرب الأهلية فى أسبانيا .. وفى الحرب العالمية الثانية .. وطار إلى أفريقيا .. وصور عذاب الإنسان فى كل مكان ..
والمرأة عنده هى الضحية الأولى لكل دمار ..

كما مهد جوجول .. وتولستوى .. وتشيكوف .. وجارش .. وغوركى .. لتغيير وجه الحياة فى روسيا ..

وكان " تولستوى " عظيما فى كتبه وحياته ..

وتقدر رواية الحرب والسـلام من أعظم رواياته .. وكذلك .. البعث .. وأنا كارنينا .. وفى هذه الروايات يصل إلى أعماق النفس البشرية .. ويصور كل نوازعها الخيرة والشريرة ..

كما استخرج من الحرب روحها الهمجية .. ومن السلام أمنه وخيره ..

وعاش إلى آخر أيام حياته يفكر فى حال الفلاحين المساكين بقلب الفنان وروحه .. ثم وزع عليهم أملاكه الواسعة .. وهنا جاءت نهاية المأساة ..

ثم " دستويفسكى " ذلك الكاتب العملاق العظيم مؤلف الجريمة والعقاب .. والأخوة كارامازوف .. وبيت الموتى .. ولقد لقى العذاب فى حياته .. عذاب الصرع .. وعذاب حكم الاعدام .. وعذاب النفى إلى سيبيريا ..

وعذاب من عاشرهن من النساء .. المتقلبات الميول والأهواء ..

ولاحقه العذاب حتى بعد موته .. حاولوا وأد كتبه .. ومنعها عن القراء .. ثم شعروا بالخجل لما وجدوها أصبحت تترجم من الروسية وتقرأ فى جميع أنحاء العالم على نطاق مذهل ..

ودستويفسكى .. هو أول من اكتشف بحاستة السادسة وبصيرته ونظرته العميقة إلى داخل النفس البشرية .. أول من اكتشف أن المجرم يعـود إلى مكان الجريمة .. وهذه النظرية العلمية اكتشفها بعده العالم " لامبروزو " بعشرات السنين ..

ثم " تشيكوف " فى قصصه القصيرة .. الذى نفذ إلى أعماق النفس البشرية وتأثر به كتاب العالم أجمع فى واقعيته وتصويره لحياة الناس البسطاء الذين لايفكر فى مصيرهم أحد .. ولا فى عذابهم إنسان ..

ولقد ذهب إلى جزيرة " سخالين " وعاش فيها مدة طويلة لعصور ويشاهد حياة هؤلاء البسطاء التعساء عن قرب ويلمس جراحهم ..

وكان " مكسيم جوركى " القصاص العظيم فى الذروة من هؤلاء فى عبقريته وتأثيره على كتاب العالم أجمع ..

ولقد أثر هؤلاء الكتاب فى حياة الشعب الروسى ومهدوا لكل ثورة وتغيير اجتماعى ..
كما أثر غيرهم فى كل بقاع العالم ..

فالكتاب هو المصباح بعد كل ظلمة .. وهو النور الخالد والباقى على الزمن ..

ويجب أن يعود الكتاب فى مصر كما كان رخيصا وأنيقا ..
وذلك ليس بحلم بعيد المنال ..
====================================
نشرت فى مجلة الثقافة ـ السنة الثامنة ـ العدد 93 ـ يونية 1981 وأعيد نشرها فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2006
====================================

ليست هناك تعليقات: